ما هو السقف الأعلى الذي يمكن أن تصل إليه سياسة النفاق الأميركي؟ فواشنطن منذ ثلاث سنوات اتبعت استراتيجية هجومية (تقويضية) بذريعة الدفاع التكتيكي عن أمنها الوطني. وأسهمت نظرية الأمن في تقويض دولتين وزعزعزت استقرار دول الجوار وأفسحت الطريق لجهات مجهولة ومنظمات غير معلومة لممارسة دور العابث بالأمن لتسهيل سياسة الابتزاز التي تمارسها واشنطن ضد عواصم المنطقة.
باسم «الأمن» و«الديمقراطية» و«الإصلاح» ترفع إدارة البيت الأبيض العصا الإسرائيلية تهدد بها وجود الشعب الفلسطيني في أرضه، وتبتز دول المنطقة سياسيا في حال رفضت السير في «خريطة طريق» تبدو أيضا غير واضحة المعالم. فالمشروع المذكور أُطلق بعد اسقاط بغداد كجائزة ترضية للدول العربية وإيهام المنطقة بأن الولايات المتحدة تملك تصورات عادلة للحل النهائي.
الآن بعد سنة على مشروع «خريطة الطريق» بات الطريق يتطلب خريطة جديدة لمعرفة اتجاهات سير جدار شارون الأمني داخل الأراضي الفلسطينية. فالجدار ابتلع حتى الآن نحو 40 في المئة من مناطق السلطة وعزل القرى عن بعضها واقتلع الأشجار وفصل العائلات ووزعها على جزر سكانية وطوق المدن وحاصر مداخلها وتحول الأهالي إلى ما يشبه السجناء السياسيين ينتظرون الفرج أو الإفراج من المعتقلات.
هذا الجدار قررت محكمة العدل الدولية في لاهاي عدم شرعيته ومخالفته القرارات والقوانين والمواثيق الإنسانية، وصوت لمصلحته 14 من مجموع 15 قاضيا. القاضي الوحيد الذي خالف الاجماع وامتنع عن التصويت هو ممثل الولايات المتحدة في المحكمة الدولية. ومع ذلك تصر واشنطن على محاولاتها اقناع دول المنطقة والشعوب العربية بانها عادلة في سياستها وغير منحازة... وانها - وهذا هو النفاق - تريد خير الشعوب العربية وتدعم سياسة الإصلاح والتطوير والتحديث. والمشكلة ليست في ذلك بل في ان واشنطن تستغرب كيف ان شعوب المنطقة لا تصدقها وتتهرب من التجاوب مع استراتيجيتها التقويضية.
النفاق الأميركي لا يقتصر على فلسطين بل امتد إلى العراق أيضا. فواشنطن وعدت المنطقة بدولة عصرية جديدة ستكون بمثابة «قبلة» للشعوب تتجه إليها حين تشتاق للحرية وتطلب الكرامة واحترام حقوق الإنسان وحقه في التعبير باستقلال ومن دون اكراه.
هذا «العراق الجديد» تحول بعد 18 شهرا من الحرب والاحتلال إلى كابوس يقلق المنطقة ويؤرق سكانه ويطوق شعبه ويحجر على الشعوب المجاورة دخوله ويعطل قوانينه ويهدد الجيران بالويل والثبور. والسؤال: من تصدق شعوب المنطقة... الكلام المعسول ام الوقائع الميدانية؟ فالكلام ليس جديدا على شعوب منطقة تعودت على الشعارات من دون تنفيذ ووعود لا وظيفة لها سوى تمهيد الطريق لمزيد من الوعود. اما الوقائع الميدانية فهي كما تبدو الشاهد الحقيقي على المشروع الذي تخطط له واشنطن في حال جُدّدت للرئيس الحالي ولاية ثانية. انه نفاق وما بعده نفاق.
المشكلة في الإدارة الحالية في البيت الأبيض انها راهنت كثيرا على لا وعي شعوب المنطقة وتلاعبت أيضا بالمشاعر والحاجات واقامت سياستها الهجومية على مجموعة اكاذيب ظنا منها ان ذاكرة المنطقة ضعيفة وقصيرة وان قدرتها على التحمل وصلت إلى درجة معدومة.
ربما تكون واشنطن اخطأت في حساباتها، ولكنها حتى الآن لم تفعل الاشياء البسيطة المطلوبة منها لتطويق نهج الاخطاء تلك حتى تلطف علاقاتها مع شعوب المنطقة وتحسن سمعتها. فواشنطن ترتكب الخطأ ولا تعتذر عنه، ثم تسير من خطأ إلى اشنع... ثم تجدد رهانها على انها لا تخدع الشعوب وتريد فعلا إصلاح المنطقة. فهل واشنطن فعلا تريد إصلاح المنطقة أم إصلاح الأنظمة، أم انها تراهن على تغيير الأنظمة أم تخطط لتغيير سياسة الأنظمة؟ فهذه الصور المتعارضة متداخلة وهي في مجموعها غامضة وربما تعمدت الإدارة الأميركية ان تكون الصورة مشوشة حتى لا تتضح أمام شعوب المنطقة معالم الطريق.
حتى الآن قدمت واشنطن للشعوب العربية اسوأ الأمثلة. والنماذج التي تقول عنها انها جديدة ظهر حتى الآن انها اسوأ من القديمة. فالبيت الأبيض اعترض على قرار محكمة العدل بشأن جدار شارون الأمني، وشجع الحكومة العراقية على إصدار قوانين الطوارئ التي تذكر الشعوب بأن ما حصل ليس أفضل مما هو قائم في معظم الدول العربية. فالسلبيات تجتر نفسها وتعيد إنتاج أنظمة اختبرتها المنطقة منذ عقود وعهود.
إلى متى يستمر النفاق الأميركي، وهل من سقف أعلى لنهايته؟ الجواب لا يحتاج إلى عناء للبحث. فالوقائع العراقية والفلسطينية هي أوضح دليل على تلك الصورة التي تريدها واشنطن للمنطقة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 678 - الأربعاء 14 يوليو 2004م الموافق 26 جمادى الأولى 1425هـ