تتأمل وقار الجبل، تقرأ استفزازه اليومي للمخلوقات المنهمكة بعدميتها قبالته، فينتابك شعور انه حذاء عالٍ لأمكنة عالية، إذ هي في عزلتها تسأل: ما الذي منحه كل ذلك التطاول؟ هل لأنه التزم صمته الأبدي مكتفيا بالفرجة على اللامرئي وهو يمعن في ثرثرته يفكر في غطرسات تنمو كالفطر، ومرح في المشي من دون أمل في خرق الأرض؟ إذ الهاويات في الانتظار، أو بلوغ الجبال طولا اذ تحلو الفرجة والنظر! كأن الجبل شرفة تستدرجنا كي نرتفع قليلا.
تورطك بالسهل
تظل همجيا وأحمق ان لم تتعلم الدرس «الصعب»... تراه هكذا منبسطا، ولكنه أول درس الأعالي، إليه يؤم الضوء، وتلقي الشمس عليه تحيتها البكر، لا تحسبنّه شطرا من سخط الجبل هبط به بعد أن أكل من ثمرة الغفلة!... لا تحسبنّه هاوية الترائب ومنجم الأسرار الغابرة، لا تحسبنّه ترويضا لكل جامح... هنا ظهر تتار الأرض يوم أن كانت ظهور الخيول أسرّتهم الوحيدة والليل مؤنسهم الفريد، وحين يسفر الوقت يبدأون إعادة ترتيب خراب العالم! هنا يمكنك أن تلتقط بيديك العاريتين فصيلا من البرق شذ عن القطيع، هنا يمكنك أن تستدرج الرعد لجلسات تدريب على الهمس والدندنة، هنا يمكنك أن تخطو أولى خطواتك صعودا نحو شرفة العالم.
الكهف تمرد على الأمكنة الصريحة
فكرة الخزنة الأولى، حين تلجه كأنك توْدع جسدك وروحك أمانتين بين يديه ريثما تنهي دورة الوجل لديك لتستأنف الخروج وإلقاء التحية في الأسواق. في الكهف تبدو الرؤية استحضارا لكل ما يلهو في الخارج، تستدرجه بالهيئة والصوت وما تبقى فيه من حواس وفق ما تشتهي، كأنك تعيد تصييرها لتخضع لموهبتك في التكوين! لك عساكر وعسس ومبشرون تبثهم من مخيلتك لإعادة البشر والأشياء الى نعمة التمرد على الأمكنة الصريحة قبل أن تتأكد عبوديتهم في الأماكن المغلقة. كأنه مقام محبة، كأنه ذات الدعوة للدخول من «باب واحد» وتجنب «الأبواب المتفرقة».
البئر ارتواء من العتمة
في البئر ارتواء من العتمة، قبر عمودي لا مجال لك إلا أن تتماشى مع تكوينها، منتصبا فيها وإن خارت قواك، تغشاك الأصوات المنبعثة من الخارج لتذكرك بتاريخ جيل من الحواس، تدعوك لتقصي تاريخ حركتك وأنت هنا رهين جدرانها الرطبة. الوقت بطئ كانتظار ما... برد في غير موسمه... قيظ في غير موسمه... خنجر ذاهب حتى ما بعد العظم... مواراة عنوانها الغدر... تحن الى النهوض... تتمنى حضور الأجنحة أكثر من أي وقت مضى، لحظتها تكون ذاكرتك تفتقت عن أكثر من فكرة: أن تتنكر في شكل حصاة كي توهمها انك جزء من أواصرها وخرسها، أن تمعن في انكسارك المؤقت بحثا عن انتقام مقبل يأتي في شكل ردم.
وغْدٌ من لم يُلْق التحية على الحدائق!
هي مأوى لليأس... استحضار للمكان الأمثل بعد الموت/الحياة... رشوة للخروج على ما عداها من لون وهندسة... هندسة ذاهبة في الاستفزاز، استدارة في استطالة... في حدود مشاعة لا شكل لها... تستحضر بالسهر والاستلقاء والقيلولات التي لم تتح لك في غمرة أجهزة التكييف والكهرباء وبعض المحطات الفضائية التي لا تقل رمادا عن شركات المتاجرة بالرقيق الأبيض... عصيان... مروق... تحدٍ لكل ما يبعث على الأسوار والحرس وابراز فصيلة دمك كي تمنح حق السياحة في الأرض... ثمرة ملعون قاطفها!
تكتشف بعد سنوات من الغفلة انك وغد لأنك لم تكلف نفسك عناء القاء التحية عليها، أو الانصات جيدا لدرسها الأخضر!
العزلة المسنّنة في هيئة المخمل!
جنتك النادرة... فسحة لرؤية العالم من علٍ... هتاف وصخب ... بذهاب وحشي في التأمل... عذوبة في الفاحش من الملح... ألفة في مراسيم الوحشة... رفقة في استشراء ابتكارات محمودة... لعزلات مسنّنة تأتيك في هيئة المخمل!... ورع حكيم في عولمة مجون وفير وشائع كالأوكسجين... سفر في الماء والجبل والسفح والبراكين... في استشراء الأحابيل والكمائن... عرش منصف ورهيف في كون من الهاويات وتعميم التراب... زلزال في حضورٍ... المورفين سيده الأوحد... صاريات تجابه وقاحة الأعاصير في همود يردم ضواحيه!
الأنفاق... أدغال من اسمنت
كأنها تحايل على الاستواء... تحايل على الصراط المستقيم... استبعاد للخارج نحو فضول الولوج... حجْر على النور والهواء... كأنه حمل للرفش ... خطاب السعي نحو العمى المؤقت من دون رفقة سراج... مران على تأجيل النور... خضاب المسافات الأسود... أدغال من اسمنت... توزيع للنسيان في صفائح المعدن... احبولات ستأخذك الى المخارج المزينة باللوحات وعازفي الموسيقى الرديئة والشحاذين اللبقين.
السجن ... رحِمٌ مشيمته السخرية
آه من السجن... جحْرا من ورق أراه وسادنه خفاش معاق من دون أجنحة... عرقه كفيل بتسميم بِرَك راكدة... صوته يفح بالأنياب والسياط والكوابيس... فيما استحضر بل وأحن لأصوات أعدائي كسرا للعزلة فحسب، ريثما تتوافر لي الخيارات الحكيمة... ساذج من يراه مدارا مغلقا... أحيل جدرانه الصلبة الى بلور كي أرى العالم كما يجب... أحيل نوافذه وقضبانه الى شرفات تمتلئ بعشاق مطعونين ينتظرون تلويحا ما لن يأتي... في السجن تسترجع المخيلة كل ما تسرب منها في فسحة الخارج... رحِمٌ آخر مشيمته الأمل وابتسامة سخرية في وجه سجّان متشفٍ من اصابتك بالورطة كما يتوهم.
القبر فرار مقيم
مرصّع بحياة الندم... مصقول بالمراجعات... جانح يكاد ينكر وقته... مبتلّ برغبات كانت متاحة كتفشي الأنفاس... يتهادى بصاحبه عبر وحشتين وحيرة في اللب من المقتل... يحاور الوسامة المرتجفة من هوام الأرض والأنفاس وهي في مقامعها. محاط ببحار من تراب وسدفة... يظل يعالج اللغز بمزيد من عجزه أمام الهول... يكاد ينسى لغته التي فضحت خرس العالم... مكتفيا بالأمل في أن ينفرج القبر عن قيامة تخلصه من فراره المقيم.
برزخ الكتابة
ضارية هي كمعاطف في جحيم يختبر رعاياه... موصدة كعين لا تريد أن ترى... هواء منذور لرئة عربد فيها السل... مأوى خادع سقفه العالم وجهاته المراوغة... تشهر حرابها بعد الانتهاء من سُوَر السلْم ... تشهر سلْمها وهي لمّا تسترح من سهر الحروب... تسخر من البنّائين ومهندسي المساحات وحملة الأفتار
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 678 - الأربعاء 14 يوليو 2004م الموافق 26 جمادى الأولى 1425هـ