العدد 678 - الأربعاء 14 يوليو 2004م الموافق 26 جمادى الأولى 1425هـ

التدفق الحر والتمهيد للعولمة الإعلامية

مثلما تسعفنا العلوم الباراسايكولوجية أحيانا في تفسير ظواهر عصية على العلم والمعرفة المادية المجردة فقد يسعفنا الخيال الرومانسي أحيانا، كذلك، في تفسير ما قد يستعصي على الفهم، فالذي لاشك فيه هو ان العولمة تسير بقوة نحو تحقيق أهدافها في تشكيل عالم جديد إنما تستند أساسا إلى قيادة أميركية صرفة، فالعولمة تأخذ الكثير والكثير جدا من نمط الحياة الأميركية وطريقة التفكير الأميركي لتضيف إليها خلطة من ثقافات المجتمعات الأخرى بما يوحي بالتعددية والتنوع... ومن هنا لعل من المفيد تخمين الطريقة الأميركية في التفكير وأعني بداية الشروع في هذا التفكير وليس في الوقت الحاضر حيث القوى والموازين والامكانات تساعد الأميركي في النظر نفسه باعتباره شخصا عاقلا وناضجا وقويا يمكنه ان يرسم للآخرين طريقهم الذي يجب ان يسيروا فيه.

إن «الحجاج» الأوائل الذين اختاروا ترك وطنهم الام في أوروبا واستكشاف الأرض الجديدة في أميركا إنما كان هدفهم الأول هو بناء - خلق - حياة جديدة بكل ما تنطوي عليه الحياة الجديدة من قيم وأشياء مادية ومعنوية طالما تخيلها الإنسان على مر العصور... كانت هذه الحياة الجديدة هي الحياة الحلم وكان أولئك الأوائل يتصفون بصفة عجيبة أورثوها لأبنائهم وأحفادهم وكل من سكن الأرض الجديدة... هذه الصفة هي العمل بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، الواعية وغير الواعية، المخططة لها والعفوية، في سبيل تحقيق هذا الحلم، ولهذا نجد انهم لم يتورعوا عن ابادة الهنود الحمر - سكان البلاد الاصليين - ولم يتورعوا عن الشروع في اضخم تجارة واقذرها في التاريخ وهي تجارة العبيد من اجل افراغ الأرض من أحجارها - بالقضاء على الهنود والاستيلاء على أراضيهم - واستعمال هؤلاء العبيد في بناء الحلم... لقد اكتفوا هم بأمرين اثنين هما: إعمال العقل والفكر والقتل بدم بارد وتحت ذارئع شتى... ولهذا خاض الشعب الأميركي حربا دامية من أجل استقلال الولايات المتحدة الأميركية أي من أجل السيطرة على الأرض والامكانات المتوافرة بعد طرد جنود التاج الامبراطوري البريطاني ثم شرعت - اي الولايات المتحدة الاميركية بالبناء الذاتي حتى تحولت إلى عملاق اقتصادي وحين خرجت من عزلتها إنما بهدف السيطرة على الآخرين وإشاعة الحلم الذي يبتعد كلما اقتربت منه... لهذا السبب وحده يمكن إرجاع كل ما تحقق على الأرض الجديدة من مخترعات ومكتشفات مثل الطائرات والمركبات الفضائية والتلفزيون... الخ إلى خيال القصاصين والروائيين الذين لم يدروا ابدا انه سيجيء من يحول احلام خيالهم الخصب إلى واقع حقيقي.

يقول الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون «ستكون العولمة حظ الولايات المتحدة الواعد، ولن تشكل اية عرقلة لتقدمها، ستقيم عالما جديدا بحدود جديدة يجب توسيعها» وبهذا المفهوم نفسه النابع من اللجوء إلى الخيال الرومانسي يمكننا تفهم ظاهرة العولمة التي هي امتداد لهذا الحلم الأميركي ببلوغ حياة جديدة ومخترعات جديدة، قوامها السيطرة على الآخرين وإشاعة النمط الجاهز من الحياة الرغيدة والمرفهة في ظل حرية مطلقة بحقوق انسانية مصونة، وهي بالتأكيد خدمة عظيمة للإنسانية بنقلها إلى حال متقدم ومتحرر لكن الذي يؤخذ عليها انها تفرض الحرية والديمقراطية والحياة الرغيدة والسعيدة بطريقة قسرية من دون احترام الخصوصيات والهويات القومية والوطنية... وهنا تناقض العولمة لأن الديمقراطية - أساس عمل العولمة - تعني قبل كل شيء حرية الاختيار بالقبول أو الرفض بينما جميع مناصري العولمة والمنادين بها يقرون بحتميتها.

وقضية التدفق الحر للأخبار والمعلومات لا يخرج عن هذا التصور الذي اسهبنا في توضيحه، ذلك لأن مبدأ التدفق الحر للمعلومات والأخبار كان الوسيلة المثلى للأميركيين «لازاحة بريطانيا عن مكان الصدارة» بعد الحرب العالمية الثانية إذ كانت بريطانيا، حتى ذلك الوقت، تتحكم في شئون الاتصال والبرق عبر المحيط... هكذا فإن تأكيد نائب وزير الخارجية الأميركي وليم بنتون في يناير/ كانون الثاني 1946 جعل مسألة حرية تبادل المعلومات جزءا لا يتجزأ من السياسة الخارجية للولايات المتحدة يندرج ضمن هذا الاطار نفسه إذ بذلت كل ما في وسعها من جهود سياسية ودبلوماسية للقضاء على القيود التي كانت تحول دون توسع نشاط وكالات الانباء والصحف وبقية وسائل الاعلام الأميركية إلى جميع دول العالم بعد ان كان الكونغرس قد اتخذ في سبتمبر/ ايلول 1944 قرارا تاريخيا بتبني حرية الأخبار وفي ربيع 1945 وضع الجيش الاميركي طائراته في خدمة صحافيين ومسئولي وكالات صحافية لزيارة 11 دولة حليفة ومحايدة من أجل الترويج لهذه المسألة، وسرعان ما أعلن في اليونيسكو تشكيل لجان للاهتمام بهذا الموضوع وفي نهاية العام 1946م اقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة حرية الإعلام باعتباره حقا اساسيا من حقوق الإنسان متضمنة حق جمع وتداول ونشر الاخبار من أي مكان إلى اي مكان آخر من دون قيود أو حدود، وعقد في جنيف في مارس/ آذار 1948 مؤتمر تحت إشراف الأميركيين عن حرية الأخبار، وفيه صرح رئيس الوفد الأميركي - وهو وليم بنتون نفسه - ان الولايات المتحدة ستبذل قصارى جهدها لتقليل الموانع التي تعوق حرية تدفق الأنباء بين الأفراد والدول واثار هذا الاهتمام الأميركي مخاوف بريطانيا والسوفيات الذين لم يستطيعوا عمل أي شيء تجاهه لأنه مبدأ نبيل في توجهه ولكنه يعطي ثماره، بالتأكيد، للأقوى والاكثر حيازة لقدرات جمع ونشر الاخبار... وهم الاميركان بالتأكيد.

واستطاعت اميركا ترسيخ هذا المبدأ وتفعيل عمله بشكل انعطافي بعد اطلاقها للأقمار الاصطناعية إلى الفضاء الخارجي واستخدامها في جمع المعلومات وفي الاتصالات وخصوصا نقل الاخبار والتقارير والمعلومات المكتوبة والصوتية والصورية وبثها عبر وكالات الانباء والصحف والمحطات التلفزيونية لدول العالم المختلفة قبل ان تثير دول العالم الثالث قضية الاختلال وعدم العدالة في سريان وتبادل الاخبار والرسائل الاعلامية خلال مؤتمر اليونيسكو 16 في العام 1970 لتتواصل الضغوط والشكاوى التي استطاعت الولايات المتحدة الأميركية احتواءها بتشريع حق الاتصال وهو حق أوسع وأكثر قربا للعدالة، ولكننا لو دققنا في بنى الاتصال العالمي لتأكدنا انه لم يحدث اختلاف كثير. فالاتصال يفترض اركانا خمسة مكونات له وهي: من (منتج المادة الاتصالية) وقال ماذا (مضمون المادة الاتصالية) ولمن (الجمهور المتلقي) وكيف (الوسيلة الاتصالية) وما هو الاثر (رجع الصدى). واذا ما علمنا ان القوى الاعلامية الكبرى هي المنتجة الرئيسية للمواد الاتصالية وان مضامين هذه المواد تصاغ وفق حاجاتها ووفق نمط تفكيرها وحياتها، لتأكد لنا أنه لم يحدث شيء كثير... ولعل الضغوط والتململ الذي بدأ ينتشر حتى بين حلفاء الولايات المتحدة انفسهم مثل بريطانيا والشكوى من طغيان افلام هوليوود وتأثيرات قيم الحياة الاميركية وهي التي دفعت الولايات المتحدة إلى التفكير في اساليب اكثر تطورا لأغراق الآخرين بطوفان معلوماتها بحيث لا تستطيع اية حدود أو موانع الوقوف في وجهها لأن تفكر في ابتكار البث المباشر وفتح شبكة المعلومات خصوصا في البنتاغون وبحوثها الاستراتيجية وهي الشبكة التي عرفت فيما بعد بالانترنت ولتطلق قبل حلول القرن الواحد والعشرين بأكثر من عشر سنوات كل التطورات والمبتكرات العلمية والتكنولوجية في مجال الاتصال والاعلام ليزداد الاختلال وعدم التوازن في التدفق الاعلامي بين الدول المتقدمة والنامية المتخلفة ويبلغ مستويات قياسية باتت تهدد بتغيير كل شيء على وجه الأرض، إذ ندخل في عصر جديد بات مبدأ التدفق الحر يتخذ فيه وضعا جديدا في ظل العولمة.

عميدة كلية الإعلام، جامعة بغداد





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً