العدد 678 - الأربعاء 14 يوليو 2004م الموافق 26 جمادى الأولى 1425هـ

تمثيلات الآخر... وصور السود في الثقافة العربية

مدينة عيسى - حسام أبوأصبع 

تحديث: 12 مايو 2017

بالضبط كما عمد المهاجرون الأوروبيون الأوائل إلى القارة الأميركية لتمثيل السكان الأصليين بخلع أفظع النعوت عليهم، وهو الشيء نفسه الذي قامت به الكولونيالية الغربية، وتقوم به الصهيونية الحديثة، فإن الحضارة العربية الاسلامية في العصور الوسيطة لم تكن بريئة من محاولات تمثيل الآخر، ولم تكن بدعا في ذلك مع الفارق في الأهداف الكامنة وراء هذا التمثيل، التي لم تصل الى ما وصلت إليه بعض الحالات السابقة كمسوغ للتقتيل ومحاولات تفريغ المكان من ساكنيه، وإن كانت المرامي واحدة، وهي بسط السيطرة، واعلاء الذات على حساب الآخر.

الناقد البحريني الشاب (نادر كاظم) أخذ على عاتقه في مؤلف فريد، بحث هذا الموضوع في مرحلة العصور الوسيطة، أي وقت توهج الحضارة العربية الاسلامية... ففي ذروة تصاعدها، وتوسعها الجغرافي، وبعد أن بسطت السيطرة على شعوب مختلفة الأعراق والألوان، وعلى رغم الدعوات السامية التي حملها الدين الاسلامي إلى البشرية كافة من قيم مساواة وتسامح، تطل في الثقافة التي يحملها أبناء هذا الدين متسعا للمناورة والالتفاف حول هذه القيم الاصيلة الراسخة والثابتة، عن طريق زرع أنساق ثقافية خفية تتناقض وتقوض ما جاء في المثل العليا.

وكما قلب (عبدالله الغدامي) في كتب العرب قدماءهم ومحدثوهم ليكشف النسق المضمر للذات العربية المتشعرنة، يأتي كتاب «تمثيلات الآخر... صور السود» في المتخيل العربي الوسيط لكاظم ليكتشف بدوره أن ثقافة التسامح هذه تستبطن كما هائلا من النصوص التي تتوزع على حقول معرفية مختلفة، تؤكد وجود نسق تمثيلي للسود عملت الثقافة المسيطرة على تعميمه، لا ليشمل النصوص التخيلية فحسب من شعر ونثر، بل ليصل إلى أبعد من ذلك.

إن كتاب «تمثيلات الآخر» الذي كتب مقدمته الغذامي أحد دعاة فضح الانساق المتوارية في هذه الثقافة تنظيرا وممارسة، يحاول كما يحاول المؤلف نفسه، وزن هذا الجهد الكشفي بميزان يبتعد قدر الامكان عن ميزان جلد الذات وتأنيبها على فعلة الاسلاف، لكن القارئ أيا كانت مشاربه سيجد صعوبة كبيرة في استبعاد هذا الخيار، وخصوصا أن المتورطين فيه كثر، وأن هذه الثقافة لم تعلن بعد البراء من جناية الأسلاف هذه، بل إنها لا تعترف بهذا الجرم أساسا.

فهل قدر للحضارات مجتمعة أن تعتمد، علاوة على السيطرة الفعلية، على خلق شبكات تمثيلية تصطاد بها الآخر/ المختلف، حتى لو كانت عمليا منتميا، وأنها - كما في كتاب كاظم - وأن ثبتت معيار الصلاح والتقوى شرطا للحديث عن الفروق والاختلاف، فإن أرتالا من النصوص لأعلام مثلوا الواجهة المشرقة للحضارة العربية الاسلامية متهمون بعكس الآية وتمثيل هذا المختلف قصد التحجيم والتحقير، ووضعه في مصاف الناقصين نزولا إلى مستوى البهائم، وما دون ذلك.

يعتمد المؤلف في كتابه على عدة أمور منهجية متعددة المشارب، فهو يدين بالكثير في صوغه لمفردات البحث وتقسيماته على البحوث الخاصة بدراسات الآخر، والتخييل، والتمثيل، بالاستناد على ما جاء به: (ميشيل فوكو) و(إدوارد سعيد) و(هايدن وايت) و(هومي بابا) وسواهم، وبعض المجهودات العربية الموازية التي بدأت تطفر منذ منتصف العقد الماضي تقريبا وصولا إلى اللحظة، مع تشكيلة باهرة من النصوص التراثية.

يقر المؤلف في كتابه صعوبة وضع نقطة ارتكازية قطعية للكيفية التي على أساسها بنى المتخيل العربي صورة الأسود كدال يشير مدلوله الى الدونية، لكنه يرجح أن السبب الكامن في ذلك يعود إلى قصص الصراع والمعارك الطاحنة بين العرب والأحباش وصولا إلى محاولة الأحباش هدم الكعبة في السنة التي ولد فيها النبي (ص).

فصورة هذا العدو الحبشي الأسود، ترحلت مما قبل الاسلام إلى ما بعده، فبعد بزوغ نور الاسلام في مرحلة تأسيس الدولة الاسلامية توارى هذا التمثيل نسبيا، على اعتبار أن الدين هو أساس تشكل الهوية - كما مرت الاشارة - والهوية بهذا التصور منفتحة تعتمد الجذب والدمج والاحتضان للشعوب والأعراق كافة. ثم تصاعدت الوتيرة التمثيلية في القرنين الهجريين الأول والثاني، ومع تمكن الدولة الاسلامية وفرض سيطرتها وتوسع رقعتها وازدياد الفتوحات فيها بدأت هذه الصور التمثيلية تأخذ مدى أوسع وأخطر منذ القرن الثالث الهجري فصاعدا. ويرى كاظم أن تمثيل هذا الآخر لم يكن حكرا على الأسود الزنجي، فقد نالت الهند والصين، والصقالبة، والبلغار، وغيرهم مما وقعوا تحت سيطرة الدولة الفتية المتوهجة حيزا من هذا التمثيل، لكنه يعود ويؤكد أن الأسود «يكاد يكون الآخر الوحيد الذي لم تجد هذه الثقافة معه من واسطة أو وشائج قربى أو قواسم مشتركة حقيقية ومتخيلة، تخفف من حدة المغايرة وعنف الاختلاف» (ص 164 - 165).

إن الهوية الاسلامية بالمعنى السابق، اختلفت كليا عن الهوية بمعنى ظهور الوعي بالاختلاف سلبا أو ايجابا، وعن الهوية بمعنى الاختلاق والتلفيق، ومع ذلك فإن هذا التصور لم يمنع المعاملة القاسية على أساس من اعتبار مفهوم الهوية اليه للفرز والطرد، فالأسود لم يشفع له أسلامه لينجو من تكالب الثقافة على تمثيله، وقبل ذلك حق الامتياز الشرعي الذي يفرضه منطق القوة والسيطرة في الاستعراض والتمثيل، من حوادث ما قبل الاسلام إلى عصر النهضة والإحياء كما جاء عند: (الطهطاوي) و(الكواكبي) وغيرهم.

وأهم ما أورده الكتاب أن هذا الخطاب التمثيلي تسلل إلى الطب والجغرافيا وعلوم الفلك والتنجيم والتاريخ والفلسفة وعلوم الهيئة والبحار والأنساب والكلام واللغة عند العرب، بعد أن كان محصورا في الأدب وأحاديث السمر. وكان تعاقدا فرضته الثقافة المسيطرة على المسيطر ليخلق جماعات خطابية - بحسب فوكو - تلتزم بلغة مشتركة، ومجازات موحدة، ومقاصد واحدة، فإن تعددت الاساليب وتباينت طرائق المعالجة يظل خطاب كل من: الطبيب، واللغوي، والكلامي، والمحدث، والفقيه، والجغرافي، والملاح، والمنجم، والمؤرخ، والشاعر، والقصاص يسير في اتجاه واحد، وكأن مكينة نسخ الصور والرموز والتصورات والأوصاف والعبارات لتوحش، وفسوق، وشهوانية، وتخلف، وسخف عقول وأحلام، وتشوه خلق وخلق الأسود واحدة.

ويكشف كاظم في كتابه أن التمثيل في الانتاج الثقافي في حقول معرفية متنوعة لم يتورع عن اعتماد اسرائيليات في تكريس صورة الممثل، فقد نسخ المفسرون المسلمون ما جاء في التوراة حول نسل النبي (نوح) «ع»: (سام و(حام) و(يافث)، على رغم أن القرآن الكريم لم يرد فيه ذكر هؤلاء! وتبنوا التفسير التوراتي الذي قسم سكان الأرض إلى ثلاث شيع، يأتي السود نسل حام في المرتبة الأخيرة، بينما يحتل الساميون الصدارة ومنهم كل الأنبياء.

كما عملت الثقافة على تمرير مجموعة من الاحاديث الموضوعة تحقر من السود، واعتماد ارث (بطليموس) في التفسير الجغرافي الطبيعي «الأقاليم السبعة»، ناهيك عن تناول السواد بوصفه ظاهرة بيولوجية غريبة، وغير عادية، وغير سوية، ومرضية «اعتدال الذات في مقابل فساد الآخر» كما تم تحبيك الرواية التمثيلية العربية بتبني ما كتبه (جالينوس) عن أوصاف السود الجسمية ومنها: كثرة الطرب والفرح واللهو، وسوء الخلق!! وبالمعاني السابقة كشف كاظم تورط: (الجاحظ)، (ابن رسته)، (التوحيدي)، (ابن جبير)، (القزويني)، (النويري)، (ابن خلدون)، (اليعقوبي)، (المسعودي)، (الحموي)، (القرطبي)، (الادريسي)، وغيرهم الكثير في هذا الخطاب الذي سماه خطاب «الاستفراق».

ولم يكتف المؤلف بهذا المستوى المعرفي في الحقول المتنوعة المشار إليها، بل تناول بشيء من الاستفاضة التمثيل الثقافي الأدبي في السرد والشعر، أو الثقافات الشعبية، في مقابل الثقافات السابقة المتعالية (الخطاب الثقافي العربي المعترف به من قبل النخب). ويلاحظ أن كلا الخطابين يصبان في مصب واحد، وهو الانصياع للأفق العام الذي حكم النظرة العربية الى هذا الآخر. بل ينظر كاظم إلى صورة الأسود في الثقافة العربية الأدبية كانصياع وتوافق مع التدوين النخبوي السابق الذي حكم المتخيل الجماعي، وابعد من ذلك في اسهام الخطاب التخييلي مع الخطاب الآخر وتقويته فيما ذهب إليه.

فذخيرة العجائب العربية - إن جاز لنا استعارة عبارة سعيد يقطين - من ألف ليه وليلة والسير الشعبية المسندة إلى مؤلف مجهول على رغم أن ذلك يبعد في احد التفسيرات صاحبها / أصحابها عن أي رقيب سلطوي، فإن هذه النصوص كانت امتدادا لما دونته الثقافة الرسمية، حتى سيرة عنترة الشعبية نفسها لم تخل من تمثيلات على رغم البطولة لرجل أسود.

والحال نفسها في الخطاب الشعرى، على اعتبار أن الامتلاك في مستوى اللغة والخطاب تماما كما هو الامتلاك في مستوى الواقع. فحضور الأسود شعريا كان من أقوى أدوات العزل والالغاء عوض التحجيم والتحقير. ويتناول المؤلف في هذا الفصل كافوريات (المتنبي)، كحالة مواجهة فردية، و(ابن الرومي) كنموذج مواجهة جماعية مع ثورة الزنج، إذ سعى الى تضخيم خراب البصرة في بداية الثورة، وغض الطرف عن خرابها وسحقها وتقتيل الزنج وقت قمع الثورة، وتتعقد السردية العربية بجعل قصيدة ابن الرومي من عيون الشعر العربي، ومنها:

ذاد عن مقلتي لذيذ المنام

شغلها عنه بالدموع السجام

أي نوم من بعد ما حل بالبصرة

من تلكم الهنات العظام

فقد لاحظ كاظم أن السلطة أدارت صراعها في مواجهة ثورة الزنج علاوة على الحل العسكري، الدعاية السلطوية التي اضطلع بها نفر من الشعراء والمؤرخين، وذلك باعتماد رواية السلطة من خلال نصوص مؤسسة لـ (الطبري) و(اليعقوبي) و(ابن الرومي) والبحتري) و(ابن المعتز)، وما سواهم ممن تعرضوا للتهميش، ووصل الحال إلى القتل والحرق مع ما لا يتواءم مع سردية السلطة في معركتها ضد ثورة الزنج كما كان الحال مع (محمد بن الحسن بن سهل) الذي شذ في التأليف، إذ تم شيه كما تشوى الدجاجة.

وبعد التطواف الضافي والكشف عن الصورة العامة والخاصة التي الصقت بالسود، والنقل المتواتر لهذه الحزمة من الصور البغيضة على امتداد القرون، يكشف كاظم في كتابه استسلام عدد من الشعراء لهذه الصور التخيلية، فـ (عنترة) يحاول حجب سواده بالفروسية وحسن الخلق، و(نصيب بن رباح) بمدح الخلفاء والأمراء، و(أبو دلامة) بالاستظراف. ولكن بالمقابل هناك تمثيل مضاد، وصور مخالفة، إلا أنها كانت سببا في انزال العقاب الشديد كحالة (سحيم عبد بني الحسحاس) الذي قتل لتمثيله نساء أسياده البيض، وبعض النماذج الشعرية التي لم يجد أصحابها حرجا من سواد بشرتهم، والتي سماها المؤلف نماذج المقاومة والرفض، وهي قليلة جدا، ثلاثة نماذج فحسب.

إن كتاب كاظم تجوال عميق في التراث العربي، كشف من خلاله عن احدى فظائع هذه الثقافة، التي تظهر وجها وتخفي وجها آخر، فالمثل العليا والقيم السمحة، لا تلبث أن تتهشم في الواقع المتحقق من لدن فئات متنوعة بعضها بعيد عن الشبهة لكنها متورطة أشد التورط. فالقوة والسيطرة والتمدد والتوسع بقدر ما تروم الاحتواء والدمج، فإنها بالمقابل تقصي وتهمش اعتمادا على مخيال جماعي لا يتورع عن دمج الخرافات، بالأساطير، بالتفسيرات الغنوصية، ليحدد الأنا، ويحقر من الآخر. والمثير في الأمر أن المرأة السوداء كانت مادة شبقية غزيرة، في حين لم يحظ الرجل الأسود إلا بالسباب والشتائم والتحقير.

والسؤال الذي يطرح هنا، هل تخلصت فعلا هذه الثقافة بعد أن انحسرت حضاريا من هذه الصور على مستوى التدوين وعلى مستوى الجمعي العام؟، إن الاجابة بالايجاب، هي الكفيلة بتأييد وجهة نظر المؤلف في كون هذا الكتاب لا يمثل جلدا للذات، وإنما كشفا عن الأنساق المتوارية في مرحلة تاريخية محددة، وإن أحال في أكثر من موضع إلى نتائج متشابهة في عصور متقدمة امتدادا لما كتب في العصور الوسيطة، وأن الاستفاقة التي تحدث عنها في السطور الأخيرة من كتابه في الوعي العام لهذا التحقير، لا تعني شيئا من دون شواهد غزيرة كتلك التي نهض عليها بحثه، سوى محض أوهام نتوهمها، فهذا النسق كما يبدو موجودا، ولا يحتاج إلا إلى استثارة بسيطة حتى يعاود الظهور.

ومهما يكن، فإن الكتاب يمثل جهدا مهما لثلاثة أسباب أولها: أنه إحدى الاستجابات المهمة لدعوات المراجعة وخصوصا في ضوء التشكيلة الواسعة من القراءات التي قام بها المؤلف، وثانيها: أن مثل هذه المراجعات قد تكون فاتحة لمراجعة الذات، جنبا إلى جنب مع فهم كيفية تشكل مثل هذه الأنساق التي لا تمت لا إلى الدين كمكون ومرجع ثقافي، ولا إلى الجذر الانساني المشترك الذي يجمع أبناء الأرض قاطبة. وثالثها: استثمار وتوظيف المرجعيات الحديثة التي لاتزال ذات طزاجة حتى على المستوى العالمي





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً