«إذا قتل الإنسانُ نَمِرا قالوا رياضة... وإذا قَتَلَ النَّمِرُ إنسانا قالوا وحشية»، هذا ما استطيع أن استهلّ به حديثي عن قضية محاكمة صدام حسين صعلوك العراق ولعنته، هذا المجرم السفَّاح والطاغية المتسلط المكتنز دكتاتورية من رأسه حتى أخمص قدميه يجب أن يُقدَّم إلى العالم بهكذا نعوت، وسأجعل في أذُنِي اليُمنى طينا وفي اليسرى عجينا لكي لا أسمع غير ذلك ولْيَقُل في ذلك من يَقُل ولْيَتَحدَّث من يتحدث، لأن تقديم ذلك الصعلوك على أنه وطنيٌ وقوميٌ وشريف هو جُرمٌ بحق الملايين من الشهداء والمعتقلين والمُهجّرين الموتورين بمعتوهيته القاتلة وأياديه السوداء المتشربة بصديد الحقد والكراهية وامتهان الإنسان. ثم إن الوطنية والقومية لا يُمكنها أن تتَّسِق مع السجون والأغلال والتشبّث بالسلطة وتحويلها مُلْكا عَضُوضا؛ ولا مع الاحتراب والتقاتل بلا هدف سياسي أو استراتيجي؛ ولا مع التصفيات الجسدية واغتيال الروح والمعنى الإنساني للحياة. إن صعلوك العراق هو العدو الأول للقومية والوطنية والشرف... بل هو قاتِلُهُم جميعا. هنا وإذا كان هُبَلِيُّو الفكر والأخلاق الصَّدامية يرون في حركة التعمير والتصنيع والبناء هي المعيار في تقديسهم وتبجيلهم له فالأحرى بهم أن يُقدّسوا الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا في أربعينات القرن الماضي، لأنها قامت بإنجازات اقتصادية مُهمّة؛ فقد بنى موسوليني وبنى هتلر الشواهق من الاقتصاد والصناعة والسدود والجسور والأنفاق. وقام هتلر برصف الشوارع وتعبيد الطرق ومد السكك الحديد وزرع القمح والبطاطس، وأعاد تسليح ألمانيا، وامتلك السلاح الجوي، وألغى التحديد الصارم للقوات البحرية الألمانية وزاد من عدد الجيش الألماني إلى 300 ألف مقاتل بدلا من 100 ألف، وألغى معاهدة فرساي؛ ولكن بقي الإنسان الألماني غير قادر على التعبير ولا المُغَايرة السلمية للسلطة أو العيش بإنسانية بل كان أسير توجهات الحكم المطلق الذي لوّث أوروبا الغربية بشعاراته العنصرية، وكان أقرب توصيف للوضع آنذاك هو ما عبّر عنه الكاتب والشاعر الألماني برتولد بريخت في قصيدته الشهيرة: (إلى الذين سوف يولدون بعدنا) قائلا في مطلعها:
«أنا أحيا في أيامٍ حالكة الظلمة
معتوه من يتحدث فيها ببريء الألفاظ
الجبهة لا تلمعُ إلاّ في وجهٍ بليد الإحساس
من يضحك هو من لم يعرف بعد النبأ الفاجع
أيام يُجرَّمُ من يتحدث فيها عن الأشجار
مسدلا الصمت على الأعمال الوحشية
وتمدَّدتُ لكي أهْجَعَ وسطَ القتلة
في أيامي كانت كل الطرق تؤدي للمستنقع
ويكاد لساني يسلّمني للسفاح
كنا نمضي نستبدل أوطانا
أكثر مما نستبدل أحذية»
وبعد اندحار الهتلريين وانهيار حلم الرايخ الثالث لم نر الألمان أو المثقفين من أوروبا والعالم الأنجلوساكسوني برمته يتأسَّون على تلك الحقبة العَفِنة والقاتمة من تاريخ أوروبا، بل أقاموا لأصحابها المشانق والمعتقلات لأنهم أرادوا بذلك أن يُصححوا أفهاما تداخلت ونمت مع ثقافتهم بغير رقيب، وجاء الوقت الذي يجب أن يفعلوا فيه ذلك. إن هذا القلب للمفاهيم من قِبَل المحنّطين والمسكونين بالفقه الصدّامي هو طامة كبرى يجب أن تُعالج، كما يجب أن تُخرَس جميع الأصوات الرحيمة في هذا الملف ويجب أن يصمت المتفلسفون من دعاة العفو لأن الخَطْبَ (بصدام) كبير ودماء الأبرياء التي سالت على يديه مازالت تزكم الأنوف وتُلوِّن الأرض بلونها الأحمر، أفلا يحق لنا هنا أن نتساءل: هل الإسلام تسامح مع أعدائه كابن أبي الحقيق أو مع عصماء بنت مروان أو مع سفيان بن خالد أو ابن سنينة أو مع فارس بن حاتم؟! وأخيرا أقول فكما أُسِرَ رودولف هيس مساعد هتلر وقُدِّم إلى المحاكمة مع غيره من السفاحين والقتلة وأدين كمجرم حرب، وقبع في السجن منذ العام 1941 وحتى وفاته في العام 1988 فعلى صدّام أن يذوق ذلك، وعلى الأمة العربية أن تصحّح أفهامها كما فعلت الشعوب الأخرى مع طغاتها... وإلاّ أصبحنا في عالم انقلب فيه منطق الأشياء، وأصِبنا بداء فتنة الوعي.
كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 677 - الثلثاء 13 يوليو 2004م الموافق 25 جمادى الأولى 1425هـ