حصول البحرين على المركز الأول عربيا والأربعين عالميا وفقا لتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية للعام 2004 امر مفرح بصورة عامة (كنا في المركز 37 العام الماضي، ولكن مؤشر البحرين أفضل هذا العام بشكل اجمالي)، ولكنه يعود بنا إلى الحديث عن أهمية الموضوع ومدلولاته. كانت الامم المتحدة قد بدأت اصدار التقرير في مطلع التسعينات لترشيد السياسات التنموية للدول الاعضاء.
بادئ ذي بدء فإن موضوع التنمية البشرية ارتبط بجانب مهم يتعلق بتطوير اقتصاد الدول وهو ما دلت عليه كل التجارب الدولية. ولكن إصدار الأمم المتحدة تقريرا عن التنمية البشرية يعود في جذوره إلى موضوع حقوقي أساسا. ففي العام 1993 عقدت الأمم المتحدة مؤتمرا دوليا في فيينا لاعادة تأكيد أجندة حقوق الإنسان على المستوى الكوني، وكان حينها الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي يسعى إلى إعادة تشكيل أجندة عالمية بعد انتهاء الحرب الباردة، ولذلك عقدت عدة مؤتمرات كونية عن «الأرض» في البرازيل وعن «حقوق الإنسان» في النمسا وعن «المرأة» في الصين وعن موضوعات أخرى في عواصم مختلفة.
أثناء المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان العام 1993 طرحت كثير من الدول - بما فيها الدول الآسيوية والعربية - موضوع «الحق في التنمية»، وأصرت على إدراج هذا الحق ضمن منظومة حقوق الإنسان الدولية. الولايات المتحدة الأميركية كانت تطرح موضوع «عالمية حقوق الإنسان» أولا، وتركز على الحقوق المدنية والسياسية، وبعد حوار ساخن اتفق الجميع على تضمين وجهتي النظر.
المفارقة هي أن أميركا كانت تتوجس من أن التركيز على «الحق في التنمية» ربما يكون محاولة لإعادة الصراع كما كان أيام الحرب الباردة عندما قسمت الحقوق الإنسانية إلى عهدين دوليين في العام 1966، أحدهما يتحدث عن الحقوق الفردية (المدنية والسياسية) والآخر يتحدث عن الحقوق الجماعية (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية). وقد كانت الدول الاشتراكية تقول ان الحقوق الجماعية أولا، بينما كانت أميركا والدول الغربية تقول إذا كانت هناك أولوية فهي للحقوق الفردية قبل الجماعية. المفارقة هي أن أميركا التي كانت تتوجس من إضافة الحق في التنمية العام 1993 إلى منظومة الحقوق الانسانية استفادت من تقرير التنمية البشرية العربية الصادر عن الأمم المتحدة في 2003 (بعد 10 سنوات من مؤتمر فيينا) لتطرح مبادرتها بشأن «الشرق الأوسط الكبير»، معتبرة أن المشكلات التي يشير إليها التقرير لا تترك مجالا للشك في ضرورة الإسراع في الإصلاح السياسي والاقتصادي (على الفهم الأميركي).
والمفارقة الأخرى أيضا هي أن الأمم المتحدة اعتمدت على مؤشرات لقياس مستوى التنمية البشرية بأسلوب غير مكتمل. فمثلا، إذا كان المطلوب أن كل مواطن يجب أن يحصل على صحة جسمية وتعليم، فإن المؤشر هو معدل الوفاة لدى الأطفال وعدد الطلاب في المدارس ومعلومات أخرى تعدها الحكومات ضمن إحصاءاتها. ولكن مؤشر التنمية البشرية مازال محل خلاف على المستوى العلمي، ولا توجد وجهة نظر حاسمة في الموضوع على رغم أن ما يذكره التقرير مهم جدا.
وعلى هذا الأساس فإن المؤسسات الكبرى في الدول المتقدمة بدأت تحدد الكفاءات المطلوبة لبقائها في موقع متقدم ونجاحها في المستقبل، ومن ثم تحدد تعريفات دقيقة لكل كفاءة تطلبها ومن ثم تقيس كل فرد مقابل الكفاءة. فلربما أن الكفاءات هي: القدرة على العمل مع الآخرين، القدرات في تقنية المعلومات، القدرات الشخصية والسلوكية، القدرات التحليلية والابداعية، القدرة على إنجاز المهمات... الخ. وبعد ذلك تترجم هذه القدرات إلى مؤشرات يمكن قياسها على أساس النتائج وليس فقط على أساس المعدلات العمومية.
لاخلاف في ان البحرين متطورة من الناحية الكمية صحيا وتعليميا، ولكن هناك مازالت أسئلة عن جودة المحتوى وعن مخرجات التعليم مثلا، وهذه عوامل لا يلتقطها مؤشر التنمية الحالي. كذلك الحال مع الصحة، فنحن نفوز من الناحية الكمية ومن ناحية مجانية اكثرية الرعاية الصحية، الا ان المؤشر لايقيس الجودة والفاعلية في الخدمات. ما نحتاج إليه هو تفصيل المؤشرات العمومية المطروحة في تقرير الأمم المتحدة ومن ثم ترجمتها على أرض الواقع للصعود بالوطن إلى الأعلى تماما كما تقول الأوراق
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 677 - الثلثاء 13 يوليو 2004م الموافق 25 جمادى الأولى 1425هـ