يتحدّث سُكّان الكوكب اليوم بسبعة آلاف لغة. لكن لغة واحدة (على الأقل) تنقرض كل أسبوعين. ومن عجائب الأمور أيضا أن بعض هذه اللغات لا يتحدّث بها سوى شخص واحد أو ثلاثة على الأكثر كما هو الحال بالنسبة للغات الآمورداغ والماغاتيكي والياوورو.
بعض اللغات بقيت صلبة. وما يزيد من قُدرتها على الصمود هو عدة أمور. منها انتشارها الجغرافي، وغزارة مُنتَجِها وتنوّعه، وأيضا وهو الأهم، اندماجاتها مع لغاتٍ حيّة أخرى يلوكها عدد مُعتبر من النفوس.
اللغة الفارسية ليست نشازا عن تلك القاعدة. فشعوب أفغانستان وأجزاء من شبه القارة الهندية وباكستان وبعض شعوب آسيا الوسطى كطاجيكستان وآذربيجان (بالإضافة إلى إيران بطبيعة الحال) تتحدث بها. وإذا ما جُمِعَت أعداد هذه الدول فإنها تُشكّل رقما يُسعفها لأن تُصبح حاضرة حيّة.
في النشأة والتكوّن فإن الفارسية القديمة قد بدأت فعليا منذ القرن الخامس (وبعضهم يقول الثامن) واستمرت بثيماتها المحكيّة حتى القرن الثالث قبل الميلاد، دُوِّنَ معظم نتاجها على المنقوشات الحجريّة والجلود والألواح.
ثمّ تطوّرت منذ القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن السابع الميلادي وهي الفترة التي كان فيها الإسلام يشقّ طريقه نحو الانتشار في الشرق والغرب. ومع دخول الإسلام إلى بلاد فارس والتصاهر مع ناسها، وهجرة القبائل العربية ظهرت اللغة الفارسية بشكلها الحالي، بمعنى تأثّرها باللغة العربية التي كانت في فترة من الفترات تسود من الصين إلى جنوب غرب أوروبا، وهو الأهم فيما سأقوله.
لقد كان الفتح الإسلامي في جانب منه، يُؤسّس إلى علاقة مميزة ما بين الدين الجديد واستحقاقاته التعبديّة والشخصية والاجتماعية وبين القرآن الكريم داخل البلاد المفتوحة، الأمر الذي حتّم على الداخلين إلى الإسلام أن يكونوا مُدركين لأحكامه من خلال الكتاب والسّنة عبر فهم مقاصده كما يجب. وهكذا الحال كان بالنسبة لإيران.
في التحوّلات السياسية التي جرت بالتوالي داخل الدولة الأموية وثم العباسية، دَفَعَ بالعربية والفارسية لأن تزدوجا على ألسنة المفكرين والعلماء كشهيد البلخي وأبي الطيّب المُصْعَبي والرُّودكي وحنظلة الباذغيسي. (راجع ما كتبه فيكتور الكك في فصلية إيران والعرب العدد الأول صيف 2002).
كذلك أبرزََ المدّ الإسلامي علماء وشعراء من فارس كحافظ والخيام وسعدي والبيروني وابن سينا والرازي والفارابي. وظهرت مدارس للفقه الإسلامي والحكمة والفلسفة تصدّرها علماء من فارس.
في التاريخ القريب وقبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران دَأَبَ النظام الشاهنشاهي (ولأسباب سياسية) إلى إبعاد العربية لغة وتحدثا عن أجواء الإيرانيين، إلاّ في بعض الأقضية الأكاديمية المعدودة جدا. أو داخل الحوزات العلمية التي كانت عصيّة على ذلك.
بل إنه أراد إحياء بعض المفردات التي انحسرت داخل الطقوس الزرادشتية منذ العهد الساساني، إيغالا منه في إحياء النفس القومي القديم القائم على الحقب السحيقة للإمبراطوريات الفارسية السابقة.
وقد نَسِيَ الشاه (الأب والابن معا) بأن هذا التغريب الراديكالي في ثقافة المجتمع الإيراني هو يعني حيفا استراتيجيا بحقّه وبحق انتظامه التاريخي والسوسيولوجي، وخصوصا أن الإيراني بات متجاورا مع الحالة الدينية بصورة أشد منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وما آلت إليه الأمور الثقافية والدينية التي جعلت الإيراني يُحاكي واقعه الديني من خلال الارتباط بالمرجعيات الدينية.
كذلك فإن الشاه كان قد أخطأ التقدير عندما نَسِيَ بأن حجم تأثير اللغة العربية في ثنايا اللغة الفارسية في القرنين الرابع والخامس الهجري كان منعطفا هاما لتظهير حالة لغويّة مزدوجة لكنها متقدمة، كانت فيها العربية تحتل مكانا واسعا في القاموس الفارسي. لذلك فشل الشاه في مسعاه، وبقي الإيرانيون يلوكونها. كما بقيت إيران تُنتج العربية حتى على مستوى الشعر (عباس الخليلي مثالا).
بعد انتصار الثورة الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي بدا الأمر مختلفا جدا. ولأن النظام الذي حَكَمَ البلاد بعد الثورة هو ديني بامتياز فقد اهتمّ بموضوع اللغة العربية في المدارس النظامية والجامعات والمعاهد البحثيّة.
وإذا ما عُرِفَ أن المرحلة الثانوية وحدها تضمّ ستة عشر مليون طالب، والمرحلة الجامعية تضمّ مليونين ونصف المليون طالب حينها سنُدرك حجم الاهتمام الرسمي باللغة العربية، ولاحقا تأثيره الأفقي والعمودي على الفرد الإيراني.
وقد وَجَدْتُ خلال زياراتي للجمهورية الإسلامية الايرانية بأن طلاب الجامعات وخصوصا في مجال الدراسات الإنسانية يحفظون أبياتا كُثُر من معلّقات أمرئ القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى. وهو ما يعني الشيء الكثير.
لقد ذَكَرَ فيكتور الكيك وهو رئيس مركز اللغة الفارسية وآدابها، وأستاذ الحضارة العربية والإسلامية والأدب العربي المقارن بالجامعة اللبنانية بأنه أشرف شخصيا على عدد من رسائل الدكتوراه في مجال اللغة العربية لطلاب إيرانيين كانت من أميز الأطروحات في مجال اللغة العربية.
ما يهمّ من كل ذلك والذي أودّ أن أخلص إليه، هو أن الوصل الحضاري بين الأمتين العربية والإيرانية هو وصل متين، ولا يُمكن (ولا يصح) أن تُعيقه أتعاب السياسة فضلا عن السياسيين التُعساء الذين لا يملكون منها سوى المناصب التنفيذية والإدارية.
إذا كانت الكيانات العالمية اليوم تُبرِّزُ حالات اتحاد لغوي على غرار الفرانكفونية والأنغلوساكسونية والتي قام بعضها نتيجة تاريخ الاستعمار الغربي لهذه البلدان، فمن غير الصحيح أن لا تُصبح العلاقات الإيرانية العربية مميزة لامعة.
وخصوصا أن التماهي الفارسي العربي في مجال اللغة (على الأقل) قد مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرنا، وهو في حدّ ذاته يُشكّل فتحا مهما لأي علاقة بينية تنتظم بين الضفتين.
إننا وفي كل أزمة ترمي بها السياسة صوب حياض العلاقات العربية الإيرانية نُصرّ على نعتها بـ «سحابة صيف» إننا نُدرك بأن لا شيء بقادر على تسفيه التاريخ والتراث المشترك لصالح القضايا العارضة
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2369 - الأحد 01 مارس 2009م الموافق 04 ربيع الاول 1430هـ