ارتبطت البحرين بالبحر وارتبط بها، فهو قدرها إذ أصبح اسما مضافا لها، لم ينفك البحرينيون عن البحر، إذ أصبح البحر حياتهم وموردا مهما لرزقهم، بالأمس كانوا غاصة واليوم صيادين، نراهم جميعا أجداد وأحفاد يدافعون عن حقهم ولقمة عيشهم، فما أشبه اليوم بالبارحة.
ما بين الغاصة والصيادين امتداد وتاريخ، إذ عرف البحرينيون البحر من خلال مهنة الغوص والتي هي من أقدم المهن في المنطقة، ولا يعرف حتى الآن تاريخا لبدايتها، إلا أنه من المرجح أنها بدأت قبل 100 عام من سنة الميلاد، إذ تحدثت سجلات الفينيقيين عن تايلوس - اسم قديم للبحرين - باعتبارها مصدر اللؤلؤ، وكان موسم الغوص يبدأ مع مطلع شهر مايو/ أيار حتى نهاية شهر سبتمبر/ أيلول، ويستمر 130 يوما، وبداية ونهاية هذا الموسم محددة، إذ يعرف أول يوم من هذا الموسم بيوم الدشة، وهو عبارة عن احتفال كبير تخرج فيه أعداد كبيرة من الشيوخ والنساء والأطفال من بيوتها من جميع مناطق البحرين لتوديع رجالها، ومع أفول شهر سبتمبر يعلن النوخذة حلول القفال - وهي لفظة عرفها أهالي الخليج تعني العودة - وذلك برفع العلم، وإطلاق المدفعية إيذانا بالرجوع. للغوص نظام مالي قائم على أساسي التنظيم المالي والهرم الاجتماعي، ومن أهم هذه الأنظمة نظام السلف الذي يقوم على أساس اقتراض النوخذة وهو ربّان السفينة لمبلغ مالي من الدائن وهو الممول للرحلة، وهذا المبلغ يحدده مجلس الغوص - أشخاص تعيّنهم الحكومة - ويدفع إلى النوخذة مباشرة قبل حلول موسم الغوص، حيث يقوم النوخذة بصرف جزء منه لشراء ما تحتاجه الرحلة من المؤن والزاد. والباقي يعطيه البحارة على ثلاث دفعات وفقا لما يحدده مجلس الغوص، هذا النظام المالي سبب أزمات كثيرة دفع بالحكومة البحرينية لتنظيم الغوص وكان أول تنظيم في عام 1924م، وهذه التنظيمات اتخذت مناحي عدّة منها ما هو متعلق بالملاحة وسفن الغوص، ومنها ما هو متعلق باللؤلؤ وتجارته، ومنها ما هو مختص بالبحارة وسلفيات الغوص، فقد جاء في وثائق الحكومة قوانين خاصة بالإبحار حيث لا يسمح لأحد بالإبحار من دون امتلاك رخصة، وذلك بإلزام جميع البحارة بتسجيل سفنهم لدى مدير جمارك البحرين. أما بالنسبة للقوانين المختصة بالبحارة وتنظيم السلف والتسقام والخرجية، فقد شددت بعض القوانين على ضرورة بيان حسابات الغوص، حيث يتوجب على النوخذة إمداد محكمة الغوص بمستندات واضحة تحصر الأموال المصروفة في الرحلة، وحساب البحارة كل على حدة.
لم يجد الغواص البحريني في قانون الغوص إنقاذا له وخاصة حين تعمد الحكومة إلى خفض قيمة التسقام والخرجية عند بداية موسم الغوص. ففي عام 1927م تجمع ما يقارب 300 بحار عند دار الحكومة مطالبين بزيادة مبالغ الغوص، أخمدت شعلة الغواصين لكنها لم تعالج ما أدى إلى اشتعالها مرة أخرى عام 1931م، ولكنها كانت أكثر ضراوة. فقد عبر الغواصة البحر من المحرق إلى المنامة حاملين العصي والقضبان الحديدية، واقتحموا مركز الشرطة وفكوا سراح الرهينتين من الغواصين ثم توجهوا إلى السوق، لكن الشرطة كانت في انتظارهم حيث سارعت بإطلاق النار عليهم، ما أدى إلى مقتل عدد من البحارة وجرح عدد من رجال الشرطة، وانتهى الأمر بمعاقبة الزعماء بالجلد في سوق المحرق.
لم ينقذ الحكومة من أزمة الغواصة إلا مع مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي حينما تعرضت صناعة استخراج اللؤلؤ في الخليج عامة والبحرين خاصة إلى التدهور والانحطاط، حيث أصيبت تجارة اللؤلؤ بالكساد، ويشير بلغريف في مذكراته لسنة 1930م (موسم الغوص سيئ هذا العام، الدخل قليل والنواخذة مضطرون للتخلي عن الغواصة والعودة إلى البحرين). ويرجع هذا الوضع إلى عدة عوامل أهمها: الأزمة الاقتصادية الكبرى في العام 1929م، والتي أدت إلى الكساد العالمي في التجّارة وخاصة في تجارة اللؤلؤ، ظهور اللؤلؤ الصناعي الذي تنتجه اليابان، إذ أصبح سعره أقل من سعر اللؤلؤ المستخرج من أعماق الخليج، القضاء على طبقة التجّار الهنود «المهراجا» عملاء اللؤلؤ الطبيعي في الخليج بسبب مساهمتهم في الكفاح من أجل استقلال الهند عن بريطانيا، إفلاس عدد كبير من ربان السفن (النواخذة)، إذ حكم على بعض منهم بالسجن لعدم قدرته على سداد قيمة السلف، اكتشاف النفط العام 1932 م، موفرا بذلك أعمالا دائمة وبأجور ثابتة وبأقل المخاطر، هذا الأمر شجع الأهالي على ترك البحر والعمل في شركة النفط.
لكن ذلك لم يقطع علاقة البحرينيين بالبحر، إذ اتخذ بعضهم صيد الأسماك مهنة له، واستمر حالهم بين مد وجزر، ولكن اليوم وضعهم يختلف إذ تعدى البر على البحر، فقد تضرر رزقهم ومعها بدأت مطالباتهم بضرورة تأمين معيشتهم، فهم كأجدادهم احترقوا من نار البحر وهياجه، فبدوا بالمطالبات والتي انتهت أخيرا إلى الاضطراب الذي شلّ سوق السمك لمدة أسبوع، فهل الحكومة جادة لإنقاذ أوضاع الصياديين بصورة معالجة الأزمة وليست تخديرها؟ لقد أوصت لجنة المرافق العامة والبيئة في مجلس النواب بمجموعة من المقترحات يراها الجميع منصفة فمنها: تنظيم قطاع الصيد، إسقاط رسوم إصدار التراخيص والتجديدات السنوية، تعويض البحّارة والمتضررين من عمليات التجريف والدفان البحري، مع تقديم الحكومة مساعدة مالية للبحارة في حالة تلف أو سرقة القوارب أو في حالة فترة توقف الصيد مع سريان نظام التقاعد على البحارة يضمن لهم حياة كريمة عند المشيب. إن العمل ينظر إليه اليوم كقيمة وليس كسلعة، فالصيد ثروة وطنية يجب الحفاظ عليها وتطويرها واستثمارها، فمن المجحف التغاضي عن ملف الصيادين إذ ينبغي على الحكومة المسارعة للنظر إليه وعلاجه بطريقة تضمن للمواطن الصياد حقه وكرامته بدل من تركه يلهث وراء اللجان، فهل سيصمد صندوق الصيادين الذي أصدره مجلس الوزراء؟ وهل سيلتزم بتعويض الصيّادين عن الأضرار التي لحقت بهم، وماذا عن الضمان الاجتماعي للبحارة الكبار في السن؟
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 2369 - الأحد 01 مارس 2009م الموافق 04 ربيع الاول 1430هـ