الحديث عن الاجتهاد لدى المسلمين له مدلولات عملية، فحتى الذين لا يقولون صراحة بجواز الاجتهاد (الحنابلة لدى السنة، والأخبارية لدى الشيعة) فإنهم على أرض الواقع يفسرون الاحكام، ويبذلون الجهد لمطابقة فهمهم النظري مع تغير الزمان والمكان.
ما يحز في النفس هو ان الجامعات الغربية خصصت برامج دراسات عليا (ماجستير ودكتوراه) تدرس الافكار الاسلامية والشخصيات الكبيرة في التاريخ الاسلامي بينما نعيش نحن على التراث والذكرى فقط. ومن بين الذين تتم دراستهم في الجامعات الغربية حاليا فقيه البحرين الشيخ يوسف البحراني الذي عاش بين الاعوام 1695 و1772م، إذ اعتبر الكثيرون ان حياة وانتاج البحراني وسيلة مهمة لفهم حركة الفقه لدى المسلمين، تماما كما هي الحال مع دراسة فقهاء كبار مثل شيخ الاسلام ابن تيمية وغيرهم.
ولعل من أهم نتائج الدراسات التي اجريت عن البحراني هي قدرته على إحداث «التوافق» بدلا من الاتجاه نحو «التكفير»، فكثير من المسلمين ينتهي بهم فهمهم للدين إلى «تكفير» الآخرين واستحلال دمائهم. وربما كان اول من مارس التكفير هم الذين خرجوا على الامام علي (ع)، وبعد ذلك بدأ الخوارج بتكفير بعضهم بعضا، كما حصل مع فرقة الازارقة التي اعتبرت ممارسة الجهاد (بمعنى القتال) ركنا من اركان الدين ومن لم يقم به فقد كفر.
الشيخ يوسف عاش ظروفا قاسية على المستويين السياسي والفقهي. فجدّه كان تاجر لؤلؤ، ووالده كان عالما في الدين تتلمذ على يد احد كبار فقهاء الشيعة هو الشيخ سلمان الماحوزي. الفقهاء الشيعة آنذاك كان بينهم ما يشبه الحرب المستعرة، لان بعضهم كان يؤمن بالاجتهاد ويطلق عليهم «الاصوليين»، والآخرون يؤمنون بالالتزام بأخبار واحاديث الرسول (ص) والأئمة (ع) فقط ويطلق عليهم «الاخباريين»، والتراشق وصل بين بعضهم إلى درجة تقترب من التكفير، وهو ما كان يمقته الشيخ يوسف. فهو شاهد كيف تتلمذ والده على يد احد الفقهاء الاصوليين (الماحوزي) وفي الوقت ذاته كان الشيخ يوسف نفسه ينحاز للمدرسة الأخبارية.
الشيخ يوسف اتخذ خطا متوازنا حتى إن البعض لم يستطع معرفة توجهه إن كان من هذه المدرسة أو تلك. وعندما اضطر إلى مغادرة البحرين العام 1717م بعد الاحتلال العماني وحرق معظم قرى ومدن البحرين - قيل انها كانت 360 مدينة وقرية، وتحولت بعد هذا الغزو إلى 60، كما اوردت ذلك بعض المصادر الغربية تأسيسا على تقرير كتب العام 1763م - هاجر الشيخ يوسف إلى القطيف، ثم إلى ايران وعاش في كرمان وشيراز، ومن ثم إلى العراق وعاش وتوفي في كربلاء العام 1772م. وطوال هجرته كان يكتب ويحاور ولكنه لم يكفّر الذين كانوا يحاورونه من الفقهاء والآخرين، واعتبر رائدا بين فقهاء الشيعة، لانه تمكن من تجاوز اخطاء ارتكبها عدد منهم عندما انتهجوا نهجا متطرفا بعد اختلاف الرأي. وفعلا، فإن الحوارات الفقهية عادت إلى اجوائها الاكثر هدوءا على رغم سخونة الاوضاع السياسية التي تحيط بالشيخ يوسف آنذاك.
إننا بحاجة أولا إلى ان ننبذ التكفير الذي سمم تاريخ المسلمين وعاد ليسمم حاضرنا وهو الدافع لعدد من التحركات غير السلمية، وبعد ذلك نبحث عن التوفيق، لان ما يقرّب المسلمين، بل الانسانية، اكثر مما يفرقها
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 675 - الأحد 11 يوليو 2004م الموافق 23 جمادى الأولى 1425هـ