إن وجود الدستور الملبي لمتطلبات العصر في أية دولة يعتبر الضمانة النظرية الأولى لقيام دولة المؤسسات والقانون لأنه يضع الأساس لنظام الحكم في الدولة ويضع الأطر العامة للسلطات فيها والعلاقة بينها وكيفية ممارسة وظائفها واختصاصاتها وحدود كل سلطة منها إضافة إلى تحديد الحقوق والحريات للأفراد والجماعات وبيان معانيها وحدودها ووسائل حمايتها المادية والقانونية، ولهذا فإن الدستور يعتبر المرجعية والقانون الأول في الدولة المناط به تنظيم شئون الحكم. ونظرا إلى هذه الأهمية فقد أولى الفقه القانوني اهتماما خاصا بآليات التعديل الدستوري حتى تكون عملية التحول سلسة ولا تحدث إرباكا في المجتمع.
إلا أن الدستور كإطار عام ليس وحده المعني بالحقوق والحريات العامة وليس وحده مصدرا للالتزام القانوني بالتعامل مع الإنسان عموما والمواطن خصوصا فإذا ما استثنينا القوانين الموضوعية التي تقرر حقوقا موضوعية للأفراد والقوانين الإجرائية التي تبين كيفية حصول الفرد على حقه الموضوعي نجد مصادر أخرى عرفها التاريخ الإنساني. فهناك العهود والمواثيق التي يتوافق عليها الشعب مع السلطة الحاكمة على حقوق عامة. ففي (15 يونيو/ حزيران 1215م) أصدر ملك إنجلترا «الماجنا كارتا أو العهد الأعظم» (MAGNA CART) والذي لعب دورا مؤثرا في تاريخ إنجلترا لما احتواه من نصوص قررت الكثير من الحقوق والحريات ووضع آلية لكفالة احترام ومراقبة تنفيذ نصوصه للتأكد من التقيد به. ومن أهم آثار «الماجنا كارتا» على النظام التمثيلي في إنجلترا أنه منح المجلس الاستشاري صلاحيات جديدة تتمثل في مشاركة الملك في وضع القوانين وفرض الضرائب.
ومن الانجازات التي تحسب للثورة الفرنسية الكبرى في العام ( 1789م) قيام الجمعية الوطنية بإعلان وثيقة «حقوق الإنسان والمواطن» في 26 أغسطس/ آب 1789م.
وهناك مصادر أخرى مثل «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» (الذي اعتُمِدَ في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1948م) و«العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية» واللذين اعتمدتهما الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966م ودخلا حيز التنفيذ في 23 مارس/ آذار 1976م ويتميز هذان العهدان بأنهما أكثر تفصيلا وبوجود آليات للتأكد من تنفيذ أحكامه، والدول التي تَنضمُ إلى العهدين الدوليين يجب أن توائم تشريعاتها بما يتناسب مع قواعد وأحكام هذين العهدين.
وهنا في مملكة البحرين يعتبر ميثاق العمل الوطني وثيقة قانونية وتاريخية وإطارا عاما يتضمن الكثير من المبادئ والحقوق والحريات ويعتبر كما عبر عنه جلالة الملك «ركيزة لعقد اجتماعي في المسيرة الوطنية»، وهو يشكل مرجعا وأساسا للكثير من الحقوق والحريات والسلطات التي وردت في الدستور ويجب أن تُحفظ له هذه المكانة والقوة القانونية كونه أحد أهم المصادر التي يستمد منها الدستور قواعده وأحكامه والمرجعية التي يستند إليها في المسيرة الديمقراطية وفيما يخص السلطة التشريعية والنظام النيابي المكون من مجلسين، وكذلك لكونه وثيقة قانونية توافق عليها الشعب والحكم وتم التصويت عليها في استفتاء شعبي حقق غالبية أصوات الشعب بما يشبه الإجماع بهدف تطوير النظام السياسي وتحقيق دولة المؤسسات والقانون، ما يجب معه عدم الخروج عن الآليات الدستورية والقانونية للتعديل الدستوري تجنبا للخيارات التي تبدو في ظاهرها ممكنة وسريعة التحقق، ولكنها تؤسس لأعراف وسوابق يمكن أن تستخدم في الاتجاه المعاكس. والخلاصة أن أية رغبة أو مطالب بتعديل الدستور تتمكن من الحصول على دعم المجتمع بجميع شرائحه ويتم التفاعل معها من قبل السلطة التشريعية وتمر من خلال القنوات والآليات الدستورية والقانونية ستكون قادرة على الصمود وستقرّب مجتمعنا من دولة المؤسسات والقانون في حين أن الابتعاد عن ذلك سيشكل تناقضا مع مبادئها، إذ لا يجوز إقامة دولة المؤسسات والقانون بخرق القواعد والآليات القانونية وتجاوز المؤسسات القائمة حتى لو كانت هي أساس تحفظاتنا. فالقانون لا يُلغى ولا يُعدل إلا من السلطة صاحبة الحق في ذلك قانونا وباستخدام القواعد والآليات التشريعية والقانونية التي لا يجب أن تقل من حيث القوة القانونية عن القواعد المراد إلغاؤها.
فالدستور الذي استمدَّ مبادئه وقوته من ميثاق العمل الوطني الحائز على غالبية أصوات الشعب والذي يحتوي على آليات تعديله من غير الصائب المطالبة بتعديله بآليات وبأدوات تقل من حيث القوة القانونية عن ذلك، وعلى رغم كون حق مخاطبة السلطات العامة من الحقوق المكفولة دستوريا فإن العريضة لا تعكس إجماعا في الظروف الراهنة على كونها أداة وآلية سليمة للدفع باتجاه تعديل دستوري، فضلا عن كون ذلك سيشكل سابقة في تجاوز نتائج الاستفتاءات التي يعبر فيها الشعب عن رأيه تجاه قضية ما. وانطلاقا مما سبق فإن أي حوار بشأن التعديلات الدستورية لابد أن يضع في اعتباره هذه المعطيات السياسية والقانونية والحقوق والسلطات والمراكز القانونية التي نشأت. كما أنه لابد من النظر إلى مضامين التعديل وعمقها وشموليتها بما يضمن عدم تجاوز الأحكام الملزمة التي وردت في ميثاق العمل الوطني بشكل يؤسس لسوابق أخرى وبما يكفل تفعيل المواثيق الدولية الأخرى التي ستنضم إليها مملكة البحرين والخاصة بحقوق الإنسان والأخذ في الاعتبار خصوصية التجربة السياسية في البحرين وأهداف المشروع الإصلاحي المتمثلة في الوصول إلى حال من الاستقرار السياسي القائم على التوافق الوطني والتوازن والممارسة الناضجة والمسئولة للعمل السياسي من أطراف المعادلة كافة سواء كانت أهلية أم حكومية.
كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "أنور الحايكي"العدد 674 - السبت 10 يوليو 2004م الموافق 22 جمادى الأولى 1425هـ