العدد 673 - الجمعة 09 يوليو 2004م الموافق 21 جمادى الأولى 1425هـ

التوطين القسري للشعر

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

تحتاج إلى حلم الأحنف ووفاء السموأل، وجرأة ابن جبير، وشجاعة معن، وجود عبدالله بن جعفر، وبصيرة ابن الهيثم، كي تتمكن من فهم هذه الساحة بكل عقدها وأمراضها وتفاصيلها ومُغيّبها وحتى ما يبدو أنه ظاهرها.

ساحة تصنّف الشعر الشعبي ضمن جنسيات واثنيات وانتماءات، فهذا يمني وذلك سوري وهذا بحريني قح وذلك بحريني بالهوية. أمور تبعث على الخجل ولعن اليوم الذي قُدّر لك فيه أن تكون جزءا من نسيج هذه الساحة الذاهبة إلى مجهولها اليائس!

كان على المنفتحين على معظم ثقافات وآداب الدنيا وشعرائها، وخصوصا من العرب، أن يحجموا عن قراءة رامبو واليوت وعزرا باوند وجيد وفاليري وهمينغواي وسارتر والكس هيلي وطوني موريسون وكورتازار وماركيز وغيرهم، لأنهم لا يمتّون إلى العربية بصلة، فيما الذين يتم تصنيفهم ظلما هم في الصميم والأصل من العرب والعروبة.

مثل تلك «التحريضات» و«الشنشنات» تكشف عن حال مرضية متأصلة، على أصحابها أن يتداركوا أنفسهم قبل فوات الأوان، لأنهم بذلك يناقضون الدور الإنساني الذي يضطلع به الأدب عموما والشعر خصوصا، وهو تناقض يكشف عن أنهم طارئون على الكتابة وعلى العالم ضمن حركيته عموما. على أولئك أن يمنحوا الشعر جنسية يثبتون عليها بحيث تنعدم صفته بانعدام تلك الجنسية، وهذا ما لا يمكن مجرد تصوره.

من العيب التلميح إلى محرر الصفحة سواء هنا في «الوسط»، أو في الصحف الزميلة، وهو تلميح لا يخفي شوفينية بتقديم أعذار لسبب الإحجام عن التواصل مع بعض الصفحات بسبب مشاركة اثنية أو شعراء من جنسية معينة. أعلم أن هذه القضية مسكوت عنها، ويُراد لها ذلك، ولكن الإصرار من بعضهم والإلحاح وأحيانا الابتزاز، كطفل يبتز والديه: لن آكل ما لم تسمحوا لي بالتفرج على فيلم رعب أو فيلم مليء بالعنف! هو جزء لا يتجزأ من حال التواطؤ المدروس والمعبّر عن حال من المرض المستفحل!

قبل ثلاثة أيام فقط، دار حوار هاتفي بيني وبين أحد الإخوة الشعراء من جنسية عربية، فيه من النخوة والأصالة والانتماء إلى أمته وعروبته الشيء الكثير، شكا لي تعرضه لمثل تلك التصنيفات على مستوى تعاطيه مع الشعر أولا، وانتمائه ثانيا، وهي حال أعلم بتفاصيلها قبل أن يسر إليّ ببعض تفاصيلها. ما أريد قوله: يظل الشعر شعرا سواء جاء من سريلانكا أو تشيلي، من التبت أو جبال عسير، نعم نظل منحازين إلى اللغة الشعر بصورة أو أخرى، ولكن ذلك الانحياز لا يخرج الشعراء الذين يكتبون بلغة أخرى من خانة الشعر، ما يبرر تعرضهم لممارسات عنصرية بغيضة لا يمكن تبريرها، فما بالك إذا ما كان الشعر الذي نتحدث عنه مكتوبا بلغة يقرأها أولئك المتذمرون لسبب أو آخر؟

للذين قرأوا أو لم يقرأوا الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، سيجدون ذلك البعد الإنساني الشامل والمفرح في عدد كبير من قصائده سواء تلك التي كتبها لأمه أو حبيبته أو بلاده، لن يشعروا بأدنى اغتراب حين قراءته، ثمة قواسم مشتركة يتيحها الشعر بعيدا عن موضوعة الهوية والانتماء المغلق، عبر تماسه مع القضايا والمشكلات والأحاسيس التي يلتقي فيها البشر كل البشر على اختلاف انتماءاتهم وأعراقهم، من دون أن نغفل عن جانب إضفاء الخصوصية على الموضوعة وربما «الثيما» التي يريد الشعر أن يحقنها في ثنايا النص.

هل نحن إزاء دعوة إلى «توطين قسري للشعر» وبمفهومه التقسيمي والشوفيني البغيض؟ يبدو الأمر كذلك

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 673 - الجمعة 09 يوليو 2004م الموافق 21 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً