من مشكلات الفكر العربي (الإسلامي) المعاصر انه لم ينجح في تجاوز منطق الدهشة. فالاندهاش من منجزات الآخر لاتزال تسيطر على العقل العربي وتصادره بأسئلة مذعورة «لماذا هم ولسنا نحن؟». هذه الأسئلة طرحها باستغراب الكثير من المفكرين انطلاقا من المشاهدة واستبطان الأحكام من حاضرهم. وعلى قياس الحاضر قرأ هؤلاء الواقع العربي من دون وعي تاريخي للتطور والسياق الذي جرت فيه التحولات. وجاءت الكتابات المعاصرة على قياس المقارنة بين وضعين ثابتين، بينما الزمن في واقعه يتحرك ولا يقف في محطة تاريخية نهائية. وبسبب هذا النوع من التفكير القاصر في وعي التاريخ ظهرت مجموعة مقالات لا تربط حركة التطور الإنساني وانتقال التطور نفسه من حال الانفكاك إلى حالات من الاندماج والتواصل.
قديما كانت الحضارات منفصلة وتتوارث بعضها بعضا أو تنتقل من مكان إلى آخر، ولكنها كانت في معظمها تعيش في دوائر منعزلة لا تحتك ببعضها إلا بالسيف أو من خلال النقل والانتقال والتجارة. إلا أن هذا التطور الحضاري انكسر في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، ودخل العالم في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي في طور جديد من التفاعل الثقافي أعطى سمة كونية للحضارات. فالحضارة لم تعد تلك الثقافة المحلية الممتدة من مكان إلى مكان كما كان عليه الإنسان في مختلف العصور. وهي حضارات وصفها صاعد الأندلسي في «طبقات الأمم» أو هيغل في «فلسفة التاريخ». فالحضارة بعد استكمال الاكتشافات الجغرافية والدوران حول إفريقيا باتت ذات طابع كوني حين تواصلت الثقافات وانتقلت وتفاعلت واندمجت وأخذت تنتج مواقع مركزية تقود الأطراف وتجذبها إلى نموذجها الخاص والجديد.
هذا الخاص والجديد والمختلف في سمته الكونية لم يلتقطه أصحاب الفكر العربي (الإسلامي) المعاصر. فأصحاب هذا الفكر واصلوا قراءة الواقع المتغير بمنظار ثابت ونظروا إلى الأمور بدهشة واستغراب وطرحوا أسئلة مذعورة وعقدوا مقارنات تميل إلى وصف الاختلاف أكثر من ميلها نحو تحليل الاختلاف وإعادة تركيب منظومة معرفية (عربية - إسلامية) معاصرة تلتقط جوهر الاختلاف وأسبابه ومسبباته وعوامله الكونية التي رفعت بعض الأمم إلى مصاف المركز (المتفوق) ودفعت بعض الأمم إلى مركز الطرف (التابع).
الفكر العربي (الإسلامي) المعاصر هو أقرب إلى ثقافة «التابع» الذي ينظر إلى «المتبوع» وكأنه «المنقذ» من الانهيار والتخلف بينما هو في حقيقة الأمر المسئول عن الكثير من عوامل الانهيار وأسباب التخلف. ومسئولية الغرب هنا ليست تهمة ولا شتيمة أخلاقية. فالمسئولية المقصودة نتاج تراكم تاريخي أنتج ذاك التفاوت بين حضارات كانت متشابهة في نموها أو متساوية في درجات تقدمها فجاءت الاكتشافات الجغرافية (أميركا) وأعقبتها حركة الإصلاح الديني وأخيرا الثورة الصناعية لتعيد ترتيب الأمم وفق درجات من الأدنى إلى الأعلى.
هذا الترتيب الموضوعي - التاريخي من الأدنى إلى الأعلى انعكس سلبا في الوعي العربي (الإسلامي) المعاصر وأنتج كتابات هزيلة في منهج كتابة التاريخ وقاصرة في ربط حلقاته. فالكتابات وصفية تعتمد على المقارنة لا على القراءة التفكيكية (أو الهدمية) وثم التركيبية لاستنتاج الجواب المركب الذي يربط العلة بالمعلول ويفسر أو يحلل الأسباب «القريبة» والأسباب «البعيدة»، كما يقول ابن خلدون في مقدمته، لمختلف تلك الظواهر.
قراءة الأسباب تساعد كثيرا على الخروج من فكر الدهشة والأسئلة المذعورة، وتسهم في إعادة إنتاج تصورات تاريخية - موضوعية وأكثر دقة في مقاربة الواقع وفهم معنى ذاك التفاوت بين الأدنى والأعلى. وفي هذا الإطار ربما تكون الإجابة عن «الأسباب البعيدة» أهم بكثير من الإجابة عن «الأسباب القريبة». فالبعيد يلقي الضوء على القريب، بينما القريب لا يعطي فكرة عن البعيد. وبسبب تركيز الفكر العربي (الإسلامي) المعاصر جهده على معرفة «الأسباب القريبة» وتغييبه أو عدم اهتمامه بمعرفة «الأسباب البعيدة» تقلصت مساحة الفكر العربي المعاصر وتراجعت مكانته وتحول إلى مجرد «ملحق» يضاف إلى الآخر، فيترجم ما يكتبون، ويستهلك ما ينتجون، ويطرب على أنغامهم، وينام على وعودهم.
الخروج على فكر الدهشة وكسر الأسئلة المذعورة وتجاوز المقارنات الوصفية بين «هم ونحن» كلها عوامل تدفع نحو إعادة ترتيب القراءات ووضع الإجابات عن «الأسباب البعيدة» على رأس سلم أولويات التفكير العربي - الإسلامي والانطلاق منها للدخول إلى الأسئلة «القريبة» من تلك الأسئلة «البعيدة». فالعالم يعيش الآن زمن الكونية بينما الفكر العربي (الإسلامي) المعاصر لايزال يكرر أسئلة الدهشة بحثا عن إجابات لن يجدها. وأزمة ذاك الفكر تبدأ من تركيزه على الذات (الأسباب القريبة) وتخلفه عن وعي الموضوع (الأسباب البعيدة). فالعوامل الموضوعية - التاريخية المغيبة عن الفكر العربي (الإسلامي) المعاصر كانت من أسباب تهميش الوعي وجعله مجرد جهاز للاستقبال لا يقرأ البعد الزمني للتطور وتراكم حلقاته وتواصلها. فالتواصل بين حلقات حضارات ونمو أمم وتفوقها وتراجع أمم وتقهقرها ليست قاصرة على العرب والمسلمين ولا تتحمل مسئوليتها الحضارة العربية - الإسلامية، ولكنها في النهاية وعلى رغم ما حصل تعتبر مهمة عربية - إسلامية في إطار تحولات الزمن ورؤية المستقبل بمنظار تاريخي.
تفوق أوروبا على العالم لم تكن مصادر قوته ذاتية (أوروبية) بل كانت كونية (عالمية) ومنها انتقلت مجموع تلك العوامل الموضوعية (الاكتشافات الجغرافية مثلا) إلى الداخل الأوروبي لتعيد انتاج شخصية القارة بدءا من التفوق (السيطرة الجغرافية) العالمي. فماركس مثلا لاحظ أن أوروبا في القرون الممتدة من الخامس عشر إلى التاسع عشر الميلادية لم تسيطر على العالم تجاريا فقط، وإنما سيطرت عليه بشريا... أي إنها نقلت ثقافتها من مكان إلى آخر ليس من خلال التواصل وإنما من خلال القهر والاحتلال والإبادات الجماعية للشعوب الأصلية وإرسال جماعات بديلة مكانها لتثبيت وجودها إلى أقصى فترة زمنية.
هذه العوامل الموضوعية التي لاحظها بعض فلاسفة أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر غابت عن وعي المفكرين العرب من الطهطاوي (توفي 1873) إلى طه حسين (توفي 1973). مئة سنة من الكتابات العربية لم تنجح في التقاط الأسباب البعيدة لتلك المفارقات والفروقات فاكتفت بالأسباب القريبة ووصف (مقارنة) الحالات والشكوى واللطم وتأنيب الذات من دون ربط موضوعي لدور العوامل الخارجية في صوغ شخصية عالم جديد انتقل من طور الثقافات المنعزلة إلى طور مركب من ثقافات متداخلة في سياق كوني رتب درجات التقدم وفق سلسلة حلقات ممتدة من الأدنى إلى الأعلى.
هذا النوع من الفكر أرخى بثقله على إمكانات تطوير التفكير العربي وأضعف احتمالات نقله من التركيز على العوامل الذاتية إلى قراءة العوامل الموضوعية. فالقراءة باتت قاصرة بينما التطور العالمي (الكوني) تجاوز تلك الكتابات المنعزلة التي تقرأ الزمن وفق تصورات سابقة مربوطة بحضارات سمتها الأولى الانعزال عن حضارات أخرى. وحتى الآن لم ينجح الفكر العربي في كسر حلقة العزلة ورؤية التطور من خارج الذات. وبسبب إهمال الفكر العربي العناصر الموضوعية ودور الخارج في التأثير على الداخل، دخل كتّابه في مشكلات كثيرة أسهمت في مراوحة الوعي في مكانه وسهلت «لمنطق الدهشة» في الهيمنة على التفكير والاكتفاء بالوصف والنقل والمقارنة.
منطق الدهشة يجب تجاوزه. والتجاوز لا يمكن أن يحصل إلا بالعودة إلى «منطق الطير» كما ذكر القرآن الكريم. فمنطق الطير يساعد على التحليق عاليا والارتفاع عن أرض العزلة ورؤية الكون وتطور الزمن من فوق. فالرؤية من فوق تكشف الكثير من عناصر «التحت» وتلتقط من خلال تلك الرؤية العوامل الموضوعية والتاريخية وتقرب من بعد المسافات فتتصل المساحات وترتبط الحلقات وندرك من خلال الموضوع أسباب تخلف الذات. «منطق الطير» يساعد على الارتفاع (الرقي) ويسهم من فوق في رؤية التفصيلات (الجزئيات) وإعادة ربطها بالكليات. وحين نستعين بمنطق الطير تتحسن الرؤية ونستطيع الإجابة بهدوء عن تلك الأسئلة المذعورة ونتجاوز الدهشة وبعدها نأتي «من سبأ بنبأ يقين»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 672 - الخميس 08 يوليو 2004م الموافق 20 جمادى الأولى 1425هـ