العدد 669 - الإثنين 05 يوليو 2004م الموافق 17 جمادى الأولى 1425هـ

ابن تيمية والسلفيون... من دون تزويق

بسام بوخوة comments [at] alwasatnews.com

أعجبني ما أثاره رئيس التحرير منصور الجمري في عموده «السلفية مناهج متعددة». ومخاطبة الفكر أمر تحتاجه الأمم اليوم في ما نراه من حولنا من صراعات. ومثل هذا الأمر لاشك في انه حساس للغاية، خصوصا عندما يتطرق الى مسمى انتشر استخدامه اليوم في الأخبار العالمية والخطابات السياسية وما عاد مقتصرا أثره على وجود في المراجع العلمية. وأنا أشفق على ما قد يمر به رئيس التحرير الآن من مواجهة ردود فعل القراء المتباينة، ومع ذلك أدلي بدلوي للمساهمة فيما أظنه يريد من تقريب أصحاب الفكر بالتعرف الذي قد يؤدي الى التلاقح والانسجام وليس بالضروري النفرة والاصطدام.

إن ابن تيمية شخصية دار حولها جدل كثير، لها من المحبين بقدر ما لها من المبغضين. ومن المهم عند اختلاف العقول، الرجوع الى الأصول. فكتب ابن تيمية وفتاواه المجموعة كم هائل يغني بقراءته عن اي تعريف بمؤلفه، ومع ذلك تجد الكثير من النقل من دون تثبت عنه في مورد التعريف به، لما سبق ذكره. وجدت بعضا من هذا النوع قد تسرب الى مقال رئيس التحرير كذلك، وأنا ممن قرأ واستفاد من كتب ابن تيمية، فرأيت من الأمانة العلمية ان أوضّح تصور المنهج السلفي في مدرسة ابن تيمية، إفادة للحوار مع المدارس الفكرية الأخرى كي لا يضيع وقت الطرفين في نزاع لا أصل له من الأساس.

السلفية والتجديد

من ينسب جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده للسلفية إنما يكرر أخطاء المستشرقين. ولو قرأ لوجد أنهم خلطوا الحركات التجديدية ببعض مع كون الصراع العقدي دائرا بينها.

والسلفية مدرسة ترى موضوع العقيدة محسوما ولا يجوز الخلاف فيه بالنظر العقلي، بينما مدرسة الأفغاني على النقيض تأخذ كلام الفلاسفة الاسلاميين في الاعتبار مع الاختلافات الموجودة بينهم. هذا كمثال بسيط، فمفهوم التجديد عند السلفيين محدود باحترام آراء من سلف ومضى في الدين وعدم تجاوزها.

ومن هذا المنطلق، فالفكر التجديدي لدى سيد قطب أقرب إلى جمال الدين وأبعد عن ابن تيمية.

كتابات ابن تيمية

أتباع المدرسة السلفية يرون أن الحق في مسائل الدين يدور في كلام من سلف ومضى من العلماء، لذلك فإن ابن تيمية عندهم ما أتى بجديد وإلا لكان مرفوضا. ولكن كانت كتاباته تقعيدا واضحا للمبادئ وتأصيلا للردود على المخالفين بكلام من سلف من العلماء أنفسهم، مع الغوص في مدلولات كلامهم ومقاصد الفاظهم لتجليتها لا التقدم عليها. وإن أول ما يشد القارئ وينفره في آن واحد في كتابات ابن تيمية هو شخصيته الواضحة المهيمنة في مؤلفاته. فله مسلك في جمع الأقوال والتدليل عليها والفصل بينها بالخصوص والاجمال ما لا يمكن لمن يعرفه ان يخطئ نسبة الكلام إليه من أول سطر. فوضوح الفكرة عنده يشد من يبحث عما يروي الغليل الفكري، بينما ثباته في الدفاع عنها من دون مجاملة ينفّر من يعارضه من علماء عصره، ويزيد من ضغينة مخالفة له أنه موسوعي، يجلب من كل حدب وصوب حتى قد لا يترك القول الفرعي البسيط في الموضوع إلا ويرد عليه بأكثر من ستين إلى تسعين وجها.

مذهب ابن تيمية

من نظر في كلامه لايشك في انه تجاوز المذهب الحنبلي الذي تتلمذ عليه بمراحل وما عاد يأبه بقوة أدواته وسعة اطلاعه إلا بالدليل الشرعي حيثما كان موضعه في المدارس الفكرية أو الفقهية. فهو ينقل عن الموافق والمخالف بل وعلوم الهنادك وأهل الكتاب ويستفيد من الجميع. بينما أتت من بعد ابن تيمية حركات تجديدية تنتمي الى مدرسته وما كان أصحابها يمتلكون هذا البعد الموسوعي فتوخّوا البقاء في دائرة مذهبهم وحد علمهم كما حصل للشيخ محمد بن عبدالوهاب.

ابن تيمية والسلفية

كان من أهم ما نعاه على الأمة ترك علمائها الرجوع المباشر الى مصادر التشريع والثروة الفكرية الفقهية واكتفاء كل عالم بأقوال مدرسته فقط. أما التقليد فهو ضرورة لابد منها للمضطر، عالما كان أم جاهلا وله في ذلك تفصيل مطول، كما فصل زيارة القبور إلى الزيارة الشرعية وأخرى شركية تخالف التوحيد. وله على هذا المنوال من الايضاح والتفصيل مسائل عدة كالمذكور عن مصادر التشريع، فهو يجعل حد الاجماع في مدرسة النبي (ص) المباشرة، أصحابه المتضمنين لآل بيته الطاهرين، وذلك لقرب عهدهم بالتنزيل السماوي إضافة الى توافر غالبيتهم في منطقة محصورة قبل توسع الفتوحات وتشتت العلماء في الأقطار. ومع ذلك فليس كل خلاف عنده بدعة، فما كان راجعا إلى خلاف بين مدارس الصحابة فأمره واسع كما هو حال غالبية الخلاف الدائر بين الفقهاء. وأما القياس، فكان له جهد جبار في اثباته وإفحام الظاهرية المنتصرين لنفيه، وابن تيمية يسطر ان كل آية في القرآن ضرب الله سبحانه فيها مثلا فهي دليل على اثبات القياس كدليل شرعي، فلولا القياس والاعتبار ما استفدنا من المثال القرآني ما نطبقه في الواقع العملي. ولكن كعادته في التفصيل وترك الاجمال، فابن تيمية - تبعا لمحققي الأصول الفقهية - يرى القياس منه صحيح ومنه فاسد، كالقياس بخلاف النص. فالقياس الذي يعتبر مصدرا للتشريع عنده هو الذي انتفت عنه موانع الفساد.

كتبت هذا للبيان، لما رأيت بعض ما ينسب اليه مخالفا لكلامه المسطور وما تعرفه مدرسته اليوم من مبادئ. كما ان الصورة المبعوثة عن هذه المدرسة قد لا تشجع على الحوار. والحوار - في نهاية الأمر - هو الثمرة المطلوبة، وهو ما ندعو الجميع إليه.

كاتب بحريني

العدد 669 - الإثنين 05 يوليو 2004م الموافق 17 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً