يسرد الروائي أمين معلوف في كتابه الأخير المعنون «البدايات»، قصة حياة عائلته اللبنانية، التي انتشرت دوليا فامتدت من أوروبا حتى جنوب أميركا، فيقول: «لا تهمنا سوى الدروب، هي تُسيّرنا من الفقر إلى الغنى، أو إلى فقر آخر، من العبودية إلى الحرية، أو إلى الموت العنيف، تعدنا، تحملنا، تقذفنا، ثم تتخلى عنا، فننفق كما ولدنا، على حافة طريق لم نخترها أصلا»... ذلك هو لبنان.
في الأسبوعين اللذين قضيتهما في لبنان وجدت أن لبنان الصغير، غني بشيء واحد، بمشكلاته الكبيرة التي لا تريد أن تصغر، أو لا يرغب اللبنانيون أنفسهم، خصوصا الطبقة الحاكمة في أن تصغر.
في تلك الفترة شاهدت فيلما سينمائيا يعرض بعنوان «مزاريب لبنان»، في رأيي ان الفيلم يعرض وجهة نظر واضحة عن الحرب اللبنانية وهي أن الجميع خاسرون، اختلف اللبنانيون بشأن الفيلم: يسارهم انتقده بشدة، ويمينهم أيضا، بل إن بعض أصدقائي اللبنانيين قرروا ألاّ يشاهدوه بسبب ما قرأوه في الصحف عنه، ذاك هو لبنان.
يبدأ الفيلم بمحاضرة يقدّمها أحد المحاضرين الإنجليز، فيسأل أحدهم هل تعرف لبنان؟ يقوم المحاضر ويرفع بيده طفاية سجاير بلورية، ويقول لو سألت ثلاثة في لبنان ما هذا فإن أحدهم سيقول لك إنها مؤامرة أميركية، وآخر إنها مؤامرة صهيونية، أما الثالث فإنه سيقول لك طفاية سجاير، ثم يرميها على الأرض لتنكسر.
قد لا يكون الفيلم معبّرا عن كل ملابسات الحرب اللبنانية المقيتة، أو انه يذكر اللبنانيين بكل طوائفهم بما فعلوه وما لم يفعلوه في وطن صغير وجميل، ولكنه بالتأكيد يروي بعضا من تلك الحرب، وقد أعطتها الممثلة نبيلة خاشوكجي التي أراها على الشاشة - لأول مرة- طابعا خاصا شرقيا وحميما ساخنا يذكّر بأجواء بيروت الصيفية القريبة من الالتهاب.
لا يريد اللبنانيون أن يعترفوا بأن جزءا من مشكلاتهم، وهو كبير، هو من جراء ما يفعلونه هم بوطنهم، لذلك فإن نظرية «المؤامرة» جاهزة، فلبنان الوطن الوحيد في هذه المنطقة الذي يحتمل «عددا من النقباء»، فهناك نقيب للمحامين في الشمال وفي بيروت (على كبر لبنان) وهو مفتٍ في الجنوب وفي بيروت أيضا، وهناك عدد من المناصب المتماثلة موزعة بين المدن اللبنانية، كل ذلك في الوطن الواحد.
يحب اللبنانيون أو بعضهم أن يدعوا أن لبنان له هوية «جامعة مانعة» وليس أبعد عن الحقيقة إلا ذلك القول.
لم يستطع لبنان أن ينتقل حتى الآن من حال الاقتتال الأهلي إلى حال أفضل، لقد بُدلت المدافع والرشاشات والحواجز بأعظم منها القذف الإعلامي والتنابذ السياسي والتمترس خلف القبلية اللبنانية، التي هي عائلة أو طائفة وفئة تجارية مستحدثة.
يجمع كثيرون على أن لبنان قبل الحرب الأهلية هو أفضل من لبنان اليوم من المنظور السياسي، ولو أن الجميع يفضّل ألا يأتي على ذكر تلك الحرب، وإن أتى عليها فهي عنده لأسباب خارجية وليست داخلية، إلاّ أن جذور الشقاق مازالت عالقة في لبنان.
لقد تراجعت الحياة الحزبية اللبنانية إلى ميليشيات كلامية أو مسلحة، وإلاّ فأين الحزب الشيوعي اللبناني الكبير والقوي؟ وأين الحركة الوطنية اللبنانية؟ بل أين حزب كبير مثل حزب الكتائب أو حتى الحزب الاشتراكي؟ كل ذلك تراجع ليظهر على السطح تكوين سياسي ديني، نصرالله صفيّر وحسن نصرالله، هما المرجعان السياسيان الأكثر حضورا في الساحة اللبنانية، وكلاهما يستند إلى مرجعية مذهبية ودينية تتجلى في شكل سياسي، وإلى ميليشيات مسلحة أو شبه مسلحة، تذوب فيها الدولة عندما يحتاج إلى سلطة دولة. كل طائفة لها ميليشيات عدا الطائفة السنية التي يميل ناشطوها بعد فقدان كثير من مواقع التأثير وبعد فقد السند الفلسطيني إلى التوجه نحو «الأصولية»، وما حوادث «أحراش الضنية» إلا أحد الشواهد على ذلك، جماعة قرنة شهوان وحزب الله، شواهد على الدور الذي تلعبه الكنيسة والطائفة في العمل السياسي اللبناني.
العداء المجاني لأميركا
تعادي شعوب كثيرة أميركا لأسباب متعددة، ولكن تلك الأسباب تكون واضحة، أما العداء اللبناني لأميركا فهو مجاني، هكذا تُقدح أميركا في زاوية من زوايا العمل السياسي العلني وخصوصا في الصحف وفي المنتديات، ويطلب ودها بعد ذلك على الصعيد الرسمي. هنا نعود إلى أحد كتب أمين معلوف «الهوية»، فهو يقول إن هناك هويات مغلقة لها مخاطرها، ولكن الأخطر الهويات القاتلة، أي تشرذم المجتمع الواحد في الدولة الواحدة إلى هويات مختلفة.
العداء لأميركا دفع السيدحسن نصرالله، وهو رجل سياسي ذكي، بل بالغ الذكاء، إلى أن يخونه ذكاؤه في اتهام أميركا بأنها المشاركة في أعمال شغب حي السلم منذ أسابيع والتي قُتل فيها عدد من المواطنين!
دور الكنيسة المارونية مهم، ولكنه اليوم يقطع ما وصله الموارنة في الحياة السياسية العربية. لقد كان جهد البساتنة وغيرهم جهدا تنويريا كبيرا، أثر في الكتابات التي ظهرت في مطلع القرن العشرين، كان هامشها التسامح وإرادتها القبول لا العزلة والتنفير، وكذا الإسلام السياسي الشيعي، فدور جبل عامل التنويري لا ينكره متابعٌ فطِن، أما التقوقع على الطائفة وحصرها خارج الوطن أو اعتبارها وطنا بديلا، ينذر بالخوف والفراق.
الهدف المبحوث عنه في لبنان والضائع اليوم هو الهامش المشترك بين الجميع، أما الهوامش المعزولة فهي تعيد نفسها في كل زواريب لبنان السياسية.
من الهوامش المعزولة قصة «التجديد» أو «التمديد» للرئيس، وهي قصة تكاد تعزف لدى كل عهد، ويصرف السياسيون وقتا وجهدا يستنزف الوطن والمواطن في كل معزوفة (التجديد والتمديد) وكأنه لا يوجد دستور ينظم العملية بدقة تكون كدقة مشرط الجرّاح.
تاريخ لبنان التجديد والتمديد بجانب الاستنزاف أوصل لبنان إلى أكثر من مأزق بينه الحرب الحقيقية، فلماذا - يتساءل المراقب - عزف تلك المعزوفة، مع كل رئيس؟ لا أحد يعرف الجواب إلا الراسخون في علم الثقافة العربية، انها تمقت التجدد والمداولة في السلطة!
انطباعي أن لبنان لن يجدّد ولن يمدّد، لا بسبب تاريخ النزاع بشأن التجديد والتمديد، بل لسببين آخرين هما ان الجو العالمي العام يريد أن تُرسَّخ الديمقراطية وتتداول السلطة، والثاني انه حتى الأقلية في البرلمان تستطيع أن تمنع التجديد أو التمديد لأن الشارع معها وليس ضدها، لذلك يتسابق العاملون في السياسة اللبنانية أو على هامشها في المزايدة على عدم التجديد أو التمديد لرئيس الجمهورية، ولكن لو طلبت منهم تقديم بديل لاختلفوا جذريا على البديل، أو لخرج عدد من البدائل بعدد اختلاف لبنان!
ألم أقل لكم إن فيلم زواريب لبنان يستحق أن يُشاهد خلال هذا الفصل الصيفي والخريفي المقبل!
كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 669 - الإثنين 05 يوليو 2004م الموافق 17 جمادى الأولى 1425هـ