كان ذلك قبل سبعة أعوام وسبعة أيام بالضبط. كنت عائدا من العمل عند الخامسة والنصف مساء، وفوجئت بالحشد الغفير الذي ملأ شوارع القرية. توقفت لأسأل أحد المارة، فأجابني: «الشيخ علي النچاس قُتل اليوم ونحن ننتظر تشييع جنازته». كانت حركة المرور تشهد ازدحاما شديدا غير مألوف، فالكثيرون جاءوا من مناطق أخرى ليشهدوا الحادث، وبقوا حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل والجنازة لم تصل، وإنما وصلهم خبر دفنها في مقبرة «الحورة» من دون حضور أحد من أهل الفقيد.
في اليوم التالي حدث احتشاد كبير، انتهى بإطلاق مسيلات الدموع، وكنت عائدا من العمل أيضا، وعندما ترجّلت لأقصد بيتي كان صوت الرصاص يلعلع في الجو، وكانت الحوّامة تطير فوق بيوت المنطقة، وكان يهبط على رأسي وأنا في الشارع مثل الحصيات الصغيرة المتناثرة في الهواء، فتعذّر عليّ الوصول إلى بيتي الكائن وسط بيوت القرية، فما كان من إحدى النساء إلاّ استضافتي في مجلس بيتها لأجلس مع أحد إخوانها، حتى إذا حلّ الظلام وهدأت العاصفة وغادرت الطائرة المروحية (الهليكوبتر) سماء البلاد القديم، قصدت منزلي وفي الشارع ما يكفي من بقايا الطلقات الفارغة للدلالة على حجم «المعركة»!
أما قبل سبعة أيام، احتفلت البلاد القديم بالذكرى الثامنة لرحيل «سيد شهداء البلاد» الذي علّقت عمامته ورداؤه وراء المنصة، إذ وقف أمامها الكثيرون يخطبون عن الشهادة ومنزلة الشهيد وتضحيات السجناء وعذابات الأمهات، وجاء الناس من مناطق شتى ليشاركوا في تأبين الفقيد. ووقف الشيخ حبيب الجمري (السجين السابق) ليتلو قصيدة عن «الشهادة» ويصرخ بأعلى صوته في الجمهور:
عودوا إلى الشيخ البصـــير بقبــره تجـــدون خيــطا مــن دمٍ مســكـوب
ســـيجيبكم عمــا لقــاه بســــجنــــه عن جرحه... عن شيبه المخضوب
ولكن ما لم يذكره الشاعر هو مكان سجن الشيخ الضرير. كان يُحتجز في زنزانةٍ صغيرةٍ جدا بسجن المنامة الغربي، لا تتسع لوقوفه للصلاة، ولا للتمدد أثناء النوم. هل رأيتم القبر؟ القبر وهذه الزنزانة توأمان، حتى الهواء فيها شحيح، فإذا دخلتها ستشعر بالاختناق، وبعد اسبوع ستصاب بالجرب وضيق التنفس، فكيف إذا كان في عز فصل الصيف؟ في هذا «القبر» قضى وطرا من أيامه الأخيرة وهو المريض بضيق التنفس حتى أتى عليه أجله في التاسع والعشرين من شهر يونيو 1997، بعد أن تأخر علاجه ونقله إلى المستشفى، فلم يكن للسجين في تلك الأعوام السوداء قيمةٌ تستدعي نقله بصفةٍ عاجلةٍ للعلاج إلا عندما يشرف على الهلاك.
والشيخ لمن لا يعرفه شيخٌ ضرير، من مواليد العام 1950، في قصته بعض ملامح معاناة طه حسين، مع الفارق الكبير طبعا بين الرجلين. عاش لأبوين فقيرين، صارع الدنيا وتحدّى صعاب الحياة. أذكر يوم زفافه في النصف الأول من السبعينات، ذهب أبناء القرية في باصات إلى قرية العروس يزفونه، وكان من بينهم طفلٌ لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، قدّر له أن يكون شاهدا يكتب لكم هذه السطور بعد ثلاثين عاما ليخاطب قلوبكم من أجل الذكرى التي تنفع المؤمنين وغير المؤمنين.
اهتم الشيخ الضرير بالدراسة الدينية وأمّ الجماعة وتعلّم الخطابة المنبرية ومارسها مدة طويلة حتى أجادها فأخذ يعلّمها حتى تخرّج على يديه عددٌ ممن يرتقون المنابر هذه الأيام. وفي أثناء الحركة الشعبية السياسية التي شهدها عقد التسعينات أبى إلاّ أن يصدح بكلمة الحق في وقتٍ جَبُنَ فيه الكثيرون وخرِست ألسنتهم عن النطق. لو سكت لما عاتبه أحدٌ نتيجة عاهته التي تضع عنه حتى فريضة «الجهاد»، ولكنه أبى إلا أن يقف موقف الرجال يوم تقلّ الرجال. دُوهم منزله لأول مرة في 29 مارس/آذار 1995 ليعتقل في سجن العدلية لمدة خمسة أيام، وبعد فترة قصيرة من إطلاق سراحه دُوهم منزله مرة أخرى ليُعتقل ويُرسل إلى سجن «جو» الرهيب، الذي كان يضم العدد الأكبر من المعتقلين السياسيين، وحُكم عليه بالسجن لمدة سنة واحدة.
في حفل التأبين الأخير الذي عُرضت فيه صور شهداء الحركة السياسية في البحرين، أذاعت عائلة الشيخ الضرير تظلمها إلى المسئولين في وزارة الداخلية بعد أن أعيتها السبل: سبعة أعوام والوزارة تماطل في إصدار «شهادة وفاة»، من شأنها تسهيل الكثير من الإجراءات الرسمية وتيسير حياة هذه الأسرة المنكوبة. لا تكتبوا فيها سبب الوفاة، لا تكتبوا ما لقيه من تعذيب، لا تذكروا ضيق التنفس الذي كان يعاني منه في ذلك القبر - الزنزانة، فقط أصدروا هذه الورقة التي من شأنها أن ترفع ولو القليل من الغبن من قلوب هذه الأسرة. أما تلك «القبور» في سجن القلعة، في وسط المنامة العاصمة، فأتمنى مجيء يومٍ على البحرين تمتلك فيها من الجرأة ما يكفي لهدم هذه القبور وإزالة هذا العار، أو تحويلها إلى متاحف أثرية، كما تفعل الأمم المتحضرة، لتظل شاهدا حيا على نهاية الحقبة السوداء. أمنيةٌ... فهل تقرأ الداخلية ما بين السطور؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 669 - الإثنين 05 يوليو 2004م الموافق 17 جمادى الأولى 1425هـ