في الوقت الذي كان فيه حضور مهرجان السينما العربية في باريس ينتظرون البدء بعرض الفيلم السوري «ما يطلبه المستمعون» لعبداللطيف عبدالحميد، بشغف إذ إن هذا الفيلم الذي أنجز خلال النصف الثاني من العام الماضي، كان - إلى «أسكندرية - نيويورك» ليوسف شاهين و«باب الشمس» ليسري نصرالله - الفيلم المنتظر أكثر من أي فيلم آخر، وصل بشكل غير متوقع خبر حصول الفيلم نفسه على الجائزة الكبرى في مهرجان الرباط، الذي اختتم أعماله في ذلك اليوم نفسه. وهكذا زاد التوقع حدة مع الأسف لأن مخرج الفيلم لم يحضر العرض، إذ إنه موجود في العاصمة المغربية لتسلم جائزته هناك.
هل زاد ذلك الفوز المغربي من حظوظ «ما يطلبه المستمعون» في باريس؟ حتى كتابة هذه السطور، لا ندري... لكن قارئنا يملك الآن الجواب بالتأكيد. ومهما يكن فإن «ما يطلبه المستمعون» بجائزة باريسية أو من دونها، فيلم لم يتوقف عن تأكيد حضوره في الساحة السينمائية العربية منذ شهور، وهو حصد حتى الآن عددا لا بأس به من الجوائز، واعتبر من أفضل ما حقق في سورية، منذ سنوات كثيرة. ولقد أضيف هذا الفيلم إلى فيلموغرافيا مخرجه الذي يعتبر الآن من بين أكثر المخرجين السوريين إنتاجا، حتى وإن كان بعض ما حقق في السابق لم يرضِ محبي سينماه عموما. وعبداللطيف عبدالحميد حاضر في السينما السورية والعربية منذ عقدين من الزمن تقريبا، بدءا من «ليالي ابن آوى» و«رسائل شفهية» وصولا إلى أحدث فيلمين له: «قمران وزيتونة» وأخيرا «ما يطلبه المستمعون». وفي كل هذه الأفلام وغيرها، وخصوصا في فيلم «نسيم الروح» تتسم سينما عبداللطيف عبدالحميد بسمة إنسانية رقيقة... وبحنين إلى أزمان البساطة، مع غضب كبير ضد كل ما يمس الإنسان وحياته وعيشه. وهذا ما نجده واضحا في «ما يطلبه المستمعون» الذي يمكن النظر إليه، أيضا، على أنه جردة حساب لعلاقة عبداللطيف عبدالحميد بالسينما من ناحية وبالحياة من ناحية أخرى. فهو هنا إذ موقع حوادث فيلمه في قرية ريفية غير بعيدة عن الساحل السوري، وتكاد تكون مسقط رأسه، وإذ جعل لغة الناس بسيطة عفوية وصادقة، آثر أن يجعل علاقة أهل القرية بالعالم الخارجي تمر عبر مرشحين هما: الراديو والأغنيات التي يقدمها من ناحية، والحرب وانتزاعها للشبان من حضن حياتهم اليومية، من ناحية أخرى.
لقد عرف عبداللطيف عبدالحميد كيف يؤطر فيلمه جغرافيا وزمنيا، بين القرية وميدان الحرب من ناحية وبين فقرتين من برنامج «ما يطلبه المستمعون» من ناحية أخرى. وجعل شخصياته، المنتزعة بخيرها وشرها، بطيبتها وعفويتها أو خبثها، باكتشافها الحب والجنس والفن، تتأرجح بين حدود تلك الإطارات في حكاية بسيطة للغاية: حكاية حب مركزية، مدغومة بحكاية صداقة عميقة. والشاب جمال، هو محور الحكايتين. لكن «معركة الوطن» تأتي لتنتزعه من حضن الحب وفن حضن الصداقة قبل أن تبتلعه من حضن الحياة. وهذا الانتزاع الأخير هو الذي يختم به المخرج. فيلما يقول في نهاية الأمر: نعم للحب لا للحرب... نعم للحياة لا للموت... حتى وإن كان بعض متفرجيه قد عجز عن رؤية المرارة والسخرية اللتين نظر بهما الفيلم إلى حروب عبثية نعرف سلفا انها خاسرة.
لن نطيل في هذا التحليل. فقط نقول إن عبداللطيف عبدالحميد قدم في «ما يطلبه المستمعون» فيلما طيبا، ساخرا، مريرا، قاسيا. فيلما لاشك في أنه يطرح على نفسه أسئلة كثيرة عن ذلك الهوس السوري الفني بالتاريخ والمواعظ التاريخية. وفي اعتقادنا أن «ما يطلبه المستمعون» الذي استحق كل اقبال حققه حتى الآن، وكل جائزة نالها، كان في إمكانه أن يكون فيلما كبيرا، لو أن مخرجه اشتغل على حواره بقدر ما اشتغل على صورته، وخفف من الزعيق الطاغي على الفيلم. غير أن هذا لا يقلل، طبعا من شأن عمل لايزال يثير الإعجاب والدموع - في مشاهده الأخيرة - حينما عرض
العدد 667 - السبت 03 يوليو 2004م الموافق 15 جمادى الأولى 1425هـ