العدد 667 - السبت 03 يوليو 2004م الموافق 15 جمادى الأولى 1425هـ

أميركا ضد أميركا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل وصل الاقتصاد الأميركي إلى درجة من النمو لم يعد بإمكانه التقدم نحو درجة أعلى، وبالتالي فإن الخيار الوحيد أمامه هو التراجع... والتراجع فقط؟

هذا السؤال يطرحه دائما فلاسفة الاقتصاد (أو التاريخ). والفارق بين الفيلسوف الاقتصادي والخبير في الاقتصاد أن الأول يقرأ المعادلات والثاني يحسبها. وهذا الفارق نجده أيضا بين فلاسفة التاريخ والمؤرخ. فالأول يقرأ التاريخ والثاني يسجله.

السؤال الفلسفي عن تاريخ الاقتصاد الأميركي (صعوده وهبوطه) طرح مرارا وكانت الوقائع تأتي لتكذب التوقعات. وفي كل مرة كان يجدد السؤال للإجابة عن معنى تضخم النفقات العسكرية في دولة كبرى فازت منذ أكثر من عقد في «الحرب الباردة» وتخلصت من منافس ضيّق عليها احتمالات توظيف الأموال، وفرض عليها سياسة التصنيع الحربي لمواجهة خطر أسلحة الدمار الشامل.

خرجت الولايات المتحدة من معركة «الحرب الباردة» وهي على قاب قوسين من احتمال انهيارها، إلا أن انهيار الاتحاد السوفياتي أسعفها في اللحظات الأخيرة وأعطاها بارقة أمل بالاستمرار بحرية مطلقة ومن دون ضغوط فرضها عليها المنافس الدولي.

أنقذت المصادفة أميركا، ولكن واشنطن رفضت تصديق الحدث فواصلت سياستها السابقة واستمرت في استراتيجية تطوير الأسلحة وتوسيع قاعدة التصنيع العسكري. والآن وبعد مرور أكثر من 12 سنة على غياب الاتحاد السوفياتي تستمر الإدارة الأميركية في اختراع «الأعداء» وافتعال الأزمات لتبرير سياسة الحروب والتدخل في شئون العالم. فأميركا اليوم ضد أميركا.

وبسبب هذا السلوك عاد السؤال إلى الظهور مجددا وهو يتعلق بإمكانات استمرار الاقتصاد الأميركي على الصعود (النمو) في ظل ضغوط الإنفاق على الحروب وموازنة الدفاع.

السؤال لا شك في أنه سيعيد صوغ الجواب ووضع المسألة في إطارها الصحيح. فهل القدر هو قدر وأن المصادفة الأولى لن تتكرر وستعود قوانين الطبيعة والاجتماع إلى لعب دورها وتضع حدا لسياسة التفرد والتسلط والاستقواء التي اتبعتها إدارة مهووسة تقدس «جنون العظمة».

الجواب: لِمَ لا. فالتاريخ يشير دائما إلى انهيار دول كبرى في لحظات ومن دون حروب. وأساس الانهيار يعود دائما إلى خلل في بنى العلاقات الداخلية وليس لعوامل خارجية فقط. فالدول الكبرى حين تبلغ مرحلة الجنون يبدأ الانهيار من داخلها لأنها تكون قد وصلت إلى الحد الأقصى من النمو (الصعود) ولم يعد أمامها سوى النزول على درجات التاريخ. وكل انهيار له أسبابه السياسية المختلفة ولكنه في النهاية يجتمع على قانون مشترك وهو أن الاقتصاد بلغ درجة من الإرهاق ولم يعد بإمكانه تلبية حاجات الدفاع. ويصبح أمام الدولة الكبرى إما الاستمرار في سياسة الغزو (استراتيجية التوسع) وإما الانكفاء إلى الداخل لمعالجة الأمراض المتفشية من الجريمة والبطالة وعدم التوازن بين الأمن وبين الرخاء الاجتماعي.

التقارير الأخيرة تقول إن ميزان المعاملات التجارية الأميركية سجل رقما قياسيا جديدا في الشهور الثلاثة الأولى من العام 2004. وذكرت وزارة التجارة أن الفجوة تتسع بين الصادرات والواردات فوصل العجز إلى 144,9 مليار دولار بالمقارنة مع الربع الأخير من العام 2003 حين وصل معدل العجز إلى 127 مليار دولار.

ويترافق العجز المتضخم في ميزان التجارة (الصادرات والواردات) مع ارتفاع حجم الديون التي وصلت إلى 4 تريليونات (أربعة آلاف مليار دولار) وهو ما يعادل 50 في المئة من ناتج الاقتصاد الأميركي السنوي. يضاف إلى ذلك تزايد عجز الموازنة بسبب الإنفاق الهائل على الأمن والدفاع، إذ وصل العجز في موازنة العام الماضي إلى نصف تريليون (500 مليار دولار) ويرجح أن يرتفع في العام الجاري بسبب الاستمرار في رفع موازنة الدفاع والإنفاق على التسلح.

أميركا (وهذا هو الموضوع) تغطي عجزها المالي من خلال بيع سندات الخزينة، إذ ارتفعت مشتريات الدول والأجانب من الأوراق المالية إلى 126 مليارا. إلا أن نمو الفجوة بين الصادر والوارد وتدهور الاحتياط الفيدرالي وصعوبة السيطرة على التضخم سيخفف لاحقا من حماس المستثمرين على شراء سندات الخزينة. وهذا سيؤدي بدوره إلى نمو فجوة جديدة بين حاجات الاقتصاد والنقص في التمويل.

النقص في الاستثمار سيدفع واشنطن إلى أحد خيارين: المزيد من الغزو (الحروب) لتلبية الحاجة إلى المال أو الإقلاع عن سياسة التوسع والانكفاء إلى داخل الحدود. وفي الحالين فإن أميركا الحالية ستتغير وستصبح أميركا أخرى غير التي نعرفها الآن

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 667 - السبت 03 يوليو 2004م الموافق 15 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً