العدد 667 - السبت 03 يوليو 2004م الموافق 15 جمادى الأولى 1425هـ

4 يوليو 1776: من رحم الاختلاف... ولدت أمة

في ذكرى يوم الاستقلال الأميركي

رملة عبد الحميد comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

لا يوجد نموذج موحد يمثل الولايات المتحدة الأميركية، خليط متجانس فريد من نوعه على المستوى المادي والبشري. ففي الشمال تطالعك أشجار الصنوبر، وفي الجنوب النخيل العالية والمروج الخضراء، وما يزيد الأمر حيرة حين ترى مواطنيها من أجناس وأعراق بشرية مختلفة يسكنون مدنا مكتظة بمساكن أنيقة، أو بنايات شاهقة، أو ربما أكواخا ريفية منفردة. حتى ختمها الخاص جاء مكملا لهذه الازدواجية، إذ يتوسطه صقر ممسكا بإحدى يديه غصني زيتون وبالأخرى سهاما، ويرمز هذا إلى أن أميركا ترغب في السلام مع القدرة على إشعال نار الحرب.

«من عالم جديد... إلى أمة جديدة:

كان سكان نيوانجلند هم ناقلو الغراس

في العهد التاريخي الأول للحياة الوطنية

هم انتقاليون ما بين عالم قديم

يرفض أن يموت... وعالم جديد لم يولد بعد»

دانيل جي. بوستن

شيء غريب أن يتزامن الاكتشاف مع النمو منذ البداية، والأغرب من ذلك كله أن يخطئ في الاكتشاف ويصحح الخطأ في الوقت ذاته، فحين أعلن الرحالة كولومبس (1493)، أن ما وصل إليه هو أجزاء من البر الآسيوي - الهند - يخطئه الرحالة الإيطالي أمريكيو فسبوتشي (19502) بتأكيده أن ما صادفه هو عالم جديد لا يعرفه الناس. وسمي هذا العالم بالعالم الجديد، وأطلق عليه تحديدا مسمى أميركا تخليدا لمكتشفه.

ومع أوائل الستينات من القرن السابع عشر الميلادي بدأت أعداد كبيرة من الأوربيين وبخاصة الإنجليز بالهجرة إلى أميركا الشمالية، وهذه الحركة امتدت لأكثر من ثلاثة قرون، ونمت معها حضارة جديدة على أرض كانت ذات يوم قارة غارقة في بحر من الظلمات.

وتعددت أسباب الهجرة إلى العالم الجديد لكنها لم تخرج عن ثلاثة أطر وهي:

السبب الاقتصادي: يشار إلى أنه من أقوى العوامل التي دفعت بالمهاجرين الأوربيين إلى ترك بلادهم، بحثا عن فرص لكسب المال في العالم الجديد. ففي الفترة الواقعة ما بين عامي 1620 - 1635 اجتاحت إنجلترا أزمة اقتصادية خانقة، سببها رداءة المحاصيل الزراعية، ما دفع بأصحاب الأراضي إلى تحويلها إلى مراعٍ.

السبب الديني: اشتدت الحماسة الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر في إنجلترا، إذ دعت جماعة عرفت بالتطهريين (بيوريتان) إصلاح المذهب الديني الرسمي في الكنيسة، وتبسيط طقوس الصلاة والعبادة، لكن أفكارهم كانت مثار اشمئزاز من القساوسة المحافظين ورجال القصر الذين عمدوا الى مضايقة البيوريتان، ما دفع بهم الى الرحيل إلى الدنيا الجديدة لاقامة شعائرهم بالشكل المرغوب.

السبب السياسي: ان القلاقل والاضطرابات السياسية التي خضعت لها انجلترا في بدايات القرن السابع عشر الميلادي كانت سببا لهجرة الكثير منها إلى أميركا، فقد دفع الحكم الاستبدادي الذي مارسه الملك شارل الثاني - في الثلاثينات من القرن المذكور - في إنجلترا إلى الهجرة، وعندما نجح مناهضوه في إزاحته عن الحكم، فرّ فرسانه إلى العالم الجديد. كما هاجر الألمان إليه هربا من سياسة الاضطهاد السياسي والديني التي مارسها صغار الأمراء، ناهيك عن السنوات العجاف التي خلفتها حروب ألمانيا الطويلة.

وتضافرت الضغوط الاقتصادية، والاضطهاد الديني، والظروف السياسية الخانقة لدفع الجميع نحو الرحيل، اذ عبر الحجّاج البيوريتان أمواج المحيط الهائج ومعهم الكتب المقدسة واللاهوت لبناء إنجلترا جديدة (نيوانجلند)، وحطوا الرحال على الأرض الجديدة، وأنشأوا المستعمرات. وكان من أولها فرجينا ومساتشوسيتش، أسستهما شركتان مرخصتان وهما شركة فرجينا وشركة خليج مساتشوسيتش اللتان تعملان لتجهيز المستعمرات وتنظيم نقل المهاجرين مقابل العمل لحسابهما كعمال متعاقدين. ثم بدأت شركات أخرى وأصحاب أملاك في التنافس على التعاقد مع الأوربيين، وخصوصا الانجليز الذين يرغبون في العيش على الأراضي الجديدة بعقود مغرية، إذ يتم التعاقد على أساس أن يعمل المهاجر لحساب صاحب العقد لمدة معينة تتراوح ما بين الأربع إلى السبع سنوات، نظير نفقات الرحلة، وبعد أن ينتهي العقد يحصل المهاجر على مستحقاته التي تصل في بعض الأحيان إلى حصوله على أرض صغيرة.

ومع سريان هذا النظام التعاقدي الجديد للهجرة تزايد عدد المستعمرات لتصبح ثلاث عشرة مستعمرة (فرجينيا، مساتشوستي، نيوهامشير، رودأيلاند، كونيتكت، نيويورك، نيوجرسي، كارولينا الشمالية، كارولينا الجنوبية، ماريلاند، جورجيا) كوّنت فيما بعد نواة الولايات المتحدة الأميركية. وكانت هذه المستعمرات تمارس الزراعة وتربية المواشي والصيد والتجارة، ومنها ظهرت أولى الجامعات الأميركية، وهي جامعة هارفرد (1636)، وكان جل غايتها تخريج القساوسة. كما تأسست في نهاية ذلك القرن - السابع عشر الميلادي - كلية وليام ماري في فرجينا. واعتبرت حياة المهاجرين الجدد في أميركا امتدادا لما ألفوه في وطنهم الأصلي من حيث الحضارة واللغة، وأصبحت هذه المستعمرات من ضمن أملاك التاج الإنجليزي إذ يتولى الملك تعيين حكامها الذين يتولون الإشراف على شئون الأمن وإدارة القوات المحلية، يسانده في ذلك مجلس استشاري معين ومكون من اثنى عشر عضوا، أما السلطة التشريعية فكانت بيد المجلس التمثيلي الذي يتم اختيار أعضائه بالانتخاب العام من قبل سكان المستعمرة.

وأدى هذا القسط الكبير من الاستقلال السياسي الذي تمتعت به المستعمرات إلى إضعاف الصلة بينها وبين بريطانيا، بل خلق جيل جيد يرفض أن يقال عنه انه إنجليزي وفقا لما أشار إليه هكتور سانت جون «انه أميركي طرح عصبيته وعاداته التي يحياها، ومن الحكومة التي يطيعها، ومن المكانة الجديدة التي يتبوؤها». وبدأ الجميع ينخرط في حياة أميركية جديدة، اضطر معها الهنود الحمر - السكان الأصليون - بعد الحرب القاسية التي خاضوها مع المستوطنين الجدد للتعايش معهم في ظل السلام والاحتراز المتبادل. كما أن الشتات القادم من أوروبا وخصوصا ألمانيا وايرلندا وفرنسا وسويسرا اضطر لاستخدام اللغة الإنجليزية. وتوطن الشعور الوطني وأخذ ينمو مكوّنا وطنا أميركيا خاصا، يمزج بين المجتمع الزراعي في الجنوب إذ المناخ الحار والتربة الخصبة، والمجتمع الصناعي في الشمال إذ انتشرت مطاحن القمح والذرة بالقرب من الموانئ، فسادت حياة الاستقرار ما بين المدرسة والكنيسة.

وضاق الأميركيون من تسلط الحكومة البريطانية خصوصا عندما اعتلى العرش جورج الثالث العام 1760، إذ حكم البلاد بصورة دكتاتورية، وعمل على ربط المستعمرات به مباشرة، إضافة إلى فرضه ضرائب جديدة لتحسين الوضع المالي لحكومة لندن التي تعاني من ديون باهظة بسبب حرب السنوات السبع مع فرنسا، فأصدر بعض القوانين التي تخوّله جمع ضرائب جديدة من المستعمرات، روّج لها بأن حاصلها سيسدد للدفاع عن المستعمرات. ومن هذه الضرائب التي أثارت زوبعة في المستعمرات الإنجليزية هي ضريبة الطابع أو التمغة (1765م)، والتي تقضي بأن يلصق طابع قيمته ستة جنيهات على الصحف والمجلات والوثائق والمستندات التجارية وعقود البيع والرهن، فرفض الأميركيون ذلك لأنه قرار غير دستوري، إضافة إلى انه يربط الاقتصاد الأميركي بالاقتصاد الإنجليزي، فبدأوا في مقاطعة البضائع الإنجليزية حتى تراجع البرلمان الإنجليزي عن قانون التمغة بسبب ضغوط التجار الإنجليز.

وتعاقب بعد ذلك سلسلة من الإجراءات التعسفية منها إعطاء حكومة لندن حق احتكار وبيع الشاي في المستعمرات الأميركية لشركة الهند الشرقية - شركة إنجليزية - العام 1773، ولما كانت تجارة الشاي في أميركا قائمة على التهريب عمدت الشركة إلى خفض أسعارها، ما شلّ أعمال التجار المحليين، الذين ثاروا ضد سياسة الاحتكار الجديدة وانضموا للنشطاء ضد السياسة البريطانية بقيادة الزعيم الوطني صاموئيل آدمز، إذ نفذوا ما عرف بحفل «شاي بوسطن» عندما ألقوا الشاي البريطاني في ميناء بوسطن احتجاجا على سوء المعاملة.

وتعالت الأصوات بالانفصال عن التاج البريطاني، وتم تكوين جيش وطني لمهاجمة القوات الإنجليزية، وحين تسلم جورج واشنطن قيادة ذلك الجيش بدأ يفكر مع الزعماء الوطنيين لإعلان الانفصال الذي لقي قبولا عاما. فشكلت لجنة من خمسة زعماء من بينهم فرانكلين وجفرسون وآدمز، كانت مهمتها إعداد وثيقة الاستقلال، إذ أعلنت بشكل نهائي في الرابع من يوليو من العام 1776، ليشهد العالم معها ولادة أمة جديدة هي الولايات المتحدة الأميركية.

*كاتبة بحرينية

إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"

العدد 667 - السبت 03 يوليو 2004م الموافق 15 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً