علق أحد القراء على مقال سابق لي بشأن أثر سيدقطب على الفكر الجهادي الذي أصّله في أوساط المسلمين في العصر الحديث، مشيرا إلى ان السلفية أبعد من سيدقطب. هذا الكلام صحيح، وما كنت أشير إليه هو الامتداد الأقوى في عصرنا المتمثل في الشهيد سيد قطب، وإلا فإن منهج السلفية يرجع أساسا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي عاش بين 1263 و1328م وولد وعاش بعيد سقوط الدولة العباسية (سقطت في 1258م) وكان في دمشق في العصر المملوكي الذي ناهض الغزو المغولي لبغداد.
ابن تيمية كان من أتباع المذهب الحنبلي، وهو أول من طرح مفهوم «مجتهد في المذهب»، بمعنى انه كان مجتهدا ضمن واحد من المذاهب الإسلامية. فبعد سقوط الدولة العباسية اعتبر غالبية المسلمين (أهل السنة) ان باب الاجتهاد قد تم اقفاله واختصاره في أربعة مذاهب رئيسية وهي المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي. ابن تيمية أعلن نفسه مجتهدا ضمن المذهب الحنبلي، وطرح مفاهيم اعتبرت الأفكار التأسيسية للحركة السلفية لاحقا. ومن أهم أفكاره كانت: رفض مفهوم التقليد واعتماد الاجتهاد (داخل المذهب)، رفض مبدأ الاجماع (اجماع الفقهاء) مصدرا للتشريع، اعتماد القرآن والسنة فقط مصدرين للتشريع والاجتهاد، رفض جميع أنواع البدع واعتبار الذين يؤمنون بها ممن ضلوا الطريق، تحريم زيارة القبور والتوسل بالأولياء، إذا دفع مسلم ضرائب فيمكن اعتبارها جزءا من الزكاة، وغيرها من الآراء القوية التي شرحها من خلال مئات الكتب التي ألفها (يقال إنها أكثر من 500 كتاب).
بعد ابن تيمية جاء تلامذته مثل ابن القيم الجوزية الذي توفي في 1356م وشرح أفكار استاذه، واعتُبر أيضا مجتهدا في المذهب، وهو الذي قال إن أساس الشريعة الإسلامية قائم على الحكمة وحفظ مصالح الناس في الدنيا والآخرة، وآمن بضرورة فهم الاحكام بحسب الزمان والمكان والظروف والعادات، ولذلك اعتبر أكثر «تحررا» في الاجتهاد من استاذه.
ثم جاء دور الامام محمد بن عبدالوهاب الذي التقى الامام محمد بن سعود وتحالف معه في 1744م قبل ان يتوفى في 1792م. تخرج محمد بن عبد الوهاب من مدرسة ابن تيمية وتحالف مع امير الدرعية (ابن سعود) في الجزيرة العربية وبدأ حركة كبرى على النهج السلفي لابن تيمية، وتأسست على مبادئه الدولة السعودية الأولى (استمرت حتى 1818م) والمملكة العربية السعودية (منذ 1924م). أعاد محمد عبدالوهاب طرح مفاهيم ابن تيمية في كتبه مثل «مجموعة الرسائل» و«كتاب التوحيد»، واعتبر ان أي تعظيم لأحد غير الله «شرك»، وان الإسلام الحقيقي هو الذي مارسه الأوائل في صدر الإسلام، وأي شيء صدر عن غير الصحابة الأوائل الذين استلهموا الدين من مصدريه (القرآن والسنة) فهو «بدعة» يجب محاربتها. ولذلك فإن حتى تسمية حركته «بالمذهب الوهابي» يعتبر مرفوضا لاتباع مدرسته، لأنهم يقولون بالتوحيد والعودة إلى السلف الصالح لاستلهام مبادئ ومفاهيم الدين الحنيف.
على ان سلفية محمد عبدالوهاب ليست هي الوحيدة التي أثرت في عصرنا الحالي. فحتى جمال الدين الأفغاني (عاش بين 1839 و1897م) يعتبره الكثيرون من مؤسسي النهج السلفي (ولو أنه من نوع يختلف عن محمد عبدالوهاب)، وكذلك محمد عبده (عاش بين 1849 و1905م) وتلميذه محمد رشيد رضا (عاش بين 1865 و1935م) وهو الذي أصدر أهم مجلة تأصيلية لمنهج السلف باسم «المنار» في القاهرة العام 1897م.
المدرسة السلفية ليست نهجا عابرا أو طارئا، وإنما لها جذورها التي دفعت إلى ظهور حركات سلفية متنوعة وبعضها تبنى العمل الجهادي بحسب تفسيرات مختلفة لمعنى الجهاد. ولذلك فإن أية محاولة لإصلاح أمورنا تدعونا إلى الحوار مع الجذور وليس مع الثمار فقط
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 667 - السبت 03 يوليو 2004م الموافق 15 جمادى الأولى 1425هـ