كان ذلك في اكتوبر/ تشرين الاول من العام 2000، عندما توقفت من دون إرادتي عن كتابة عمود بدأته في الشهر نفسه من العام 1993. أربع سنوات تقريبا مرت منذ ذلك الوقت حتى الآن، كنت خلالها أرقب وأتابع من بعيد ما يجري في البلد وشهدت الكثير... بل الكثير جدا.
سنوات ليس كالسنوات، ففيها تاريخ يصنع. مرحلة انتقالية تتسم بكل ما في المراحل الانتقالية في تاريخ الشعوب والمجتمعات: طموحات عريضة، قلق وتوتر، آمال تكبر وتصغر من حين لآخر، وأحيانا انعدام يقين وخوف من المستقبل.
في هذا الخضم، تبقى العين على الصحافة، وتصبح الآذان أكثر رهافة والاذهان اكثر تحفزا لالتقاط ما أصبحت تمور به صحافة اتسعت كما ولغة، وأخذت تعج بالعشرات من الاقلام الجديدة. جيل جديد من الصحافيين وجيل آخر من الكتاب باتوا يضبطون ايقاع حياتنا اليومية على وقع مقالاتهم ومتابعاتهم المستمرة لكل ما يجري. مجالس تنشط وتتحول إلى منتديات والقضايا قائمة طويلة من السياسة وتأثيرات العولمة وحتى أفضل الطرق لتربية الاطفال والمراهقين، اما «الاصلاح» فقد بات مفردة تتردد مثل التحيات.
في سنوات التحول هذه، استوقفني أمران. قضايا ومشكلات لا حصر لها تطرح في الصحافة والمنتديات، لكن الطروحات ووجهات النظر والاجتهادات والمتابعات لاهثة على الدوام. الأكثر من هذا، إنها الآراء والاجتهادات نفسها التي سمعناها تتردد منذ عشرين عاما على الأقل. نقلب الصحف، ونسمع الآراء من هنا ومن هناك، من الناس والناشطين والكتاب والصحافيين ومن الحكومة فلا نجد أنفسنا سوى أمام شعور وكأن البلد تبدو بلا ذاكرة.
لقد بدأت عملي في الصحافة منذ بداية الثمانينات، لكن منذ ذلك الوقت وحتى اليوم لم أسمع مقاربة لمشكلة البطالة مثلا تزيد أو تخرج عن اطار ربطها بالاجانب. هذا الالحاح الذي لا يكف عن التكرار لهذه المقاربة، يدفعنا في النهاية إلى مواجهة سؤال اكثر الحاحا: لماذا يبدو الزمن وكأنه قد توقف لدينا؟ أو بالاصح: لماذا يبدو ذكاؤنا وخيالنا متوقفا عند هذا الحد؟
ولأن مراحل التحول تحمل في طياتها الكثير من المفاهيم المختلطة لانها مراحل تتصارع فيها الآمال بأثقال الماضي، فان اختلاط المفاهيم وصل لدينا دون شك إلى مرحلة التشوش. اما اللهاث الذي تتسم به كل طروحاتنا واجتهاداتنا وذاكرتنا المتشظية إلى ذاكرات اصغر، فلا تفعل سوى ان تحول المشهد إلى مشهد افتراضي احيانا لان الطروحات المتداولة لاتزال أسيرة الخطاب اكثر من الضرورة العملية.
هذه علامات صداع، كل شيء يسير يوما بيوم: من الخدمات المقدمة للجمهور إلى الاجتهادات ووجهات النظر وما تكتبه الصحافة وكأننا نعيش هذيانا جماعيا يدفعنا للتساؤل حتما: هل يمكن أن نحمل هذا كله على محمل الجد؟
ثمة الكثير بلاشك لكي يحمل على محمل الجد، أوله مستقبلنا. ووسط هذا اللهاث، ثمة ما يستحق التوقف فعلا والبناء عليه، لكن لماذا لا يسترعي ذلك انتباه أحد. إنه اللهاث الذي يضيع البصيرة ويفقدنا ميزة التأمل ويباعد بيننا وبين الذكاء العملي. هل كتبت بعضا من وصفة العمل للمستقبل؟ لا أملكها كلها ولا أزعم ذلك، لكن هذه أبسط متطلباتها
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 666 - الجمعة 02 يوليو 2004م الموافق 14 جمادى الأولى 1425هـ