شاحب الوجه، فقد الكثير من وزنه، غزا الشيب شعره المنفوش، أظافر يديه طالت واتسخت، وجلده الناعم تجعّد، ويكثر وضع يده على خده كالمتسوّل الكسيح، فإذا تكلّم تكلّم بعصبية. هكذا ظهر صدام حسين عصر أمس (الخميس) في قاعة المحكمة، في مشهدٍ من المشاهد التي تصلح لأن تكون غلافا لمأساة اغريقية. لم يفارقه جنون العظمة لحظة واحدة حتى بعد سقوطه المدوي، ومثلُ الثور الذي يناطح الحائط أصرّ على انه لايزال «رئيس جمهورية العراق»، فهو الذي اختاره الشعب في انتخابات حاز فيها على 100 في المئة من الأصوات! حتى السادات في ذروة جنونه لم يتجرأ على هذه الكذبة الهزيلة! لكن صعلوك العراق اعتاد على المهازل والأكاذيب حتى أدمنها. وفي نفرةٍ كالطاووس نفى أن يكون ارتكب أية جرائم حرب، ألم يكن هو الرئيس؟ ومن ذا الذي يجرؤ على مساءلة الرئيس؟ الشعب عبيد وإماء، والبلد قنّ دجاج، وهو الآمر الناهي، لا يسأل عن ذنبه وهم يُسألون.
والسؤال: من الذي صنع من هذا القاتل المتشرد تلك الأسطورة الخائبة؟ مرّ زمانٌ لم يكن أحدٌ يجرؤ على الحديث عنه بكلمةٍ، ليس في العراق فحسب وإنما في الدول المجاورة، فيده كانت تمتد بالمتفجرات لتطال «المتهورين» الذي يكتبون كلمات لا تعجبه، حتى لو كانوا في الكويت أو بيروت أو قبرص أو باريس.
في المؤتمر الإسلامي الذي عقد مطلع الثمانينات، مازلت أذكر لحظة هبوط طائرته، وخرجت من بطنها عشر سيارات فخمة مصفحة، لا تدري في أيها كان يختبئ. لم يسأل أحدٌ كم كلفت هذه السيارات التي اقتطعت اثمانها من لحوم العراقيين. تسلم بلدا مزدهرا وتركه بلدا تزعق فيه الغربان. ولكي لا يزايد المزايدون على قصته فإننا نوجزها بين قوسين: مغامر جاء إلى الحكم بانقلاب أجنبي وخرج منه بانقلاب أجنبي.
عاش مدمنا الوهم، فالفارس الذي صنع «مدفع يوم القيامة»... فرّ فرار العبيد إلى حفرةٍ تحت الأرض، بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت. لو كان يمتلك ذرة شرف لرفع بندقيته للدفاع عن البلد الذي اتخذه بستانا خاصا له ولزوجته ولولديه وبناته الثلاث. حتى زوجته الاخيرة كان قد اغترف لها من الخزينة العراقية عشرات الكيلوغرامات من الذهب لتهرب بها إلى الخارج. قبل الغزو الأميركي للعراق بقليل، قتل صدام ربيبه (أبونضال) إرضاء للأميركان بحسب فريد هاليداي اثناء زيارته «الوسط» قبل أشهر. ولكي يخرج من الفخ عرض عليهم التفاوض على النفط وفق شروط جديدة، ليهبه إياهم بالمجان، ومن الذي سيراجع الرئيس في قراره؟ لكن من سوء حظه أن الوقت حينها تجاوز هذا العرض السخي جدا.
وأخيرا، مدّ الله في أعمارنا لنرى «رئيس العراق والقائد العام للقوات المسلحة» - الذي اعتاد طوال خمسة وثلاثين عاما على إصدار الأوامر والأحكام وعلى الآخرين تنفيذها - يجلس عصر أمس أمام قاضٍ كان يلعب في الحواري يوم مجيئه إلى السلطة، ليقول له: «اسمح لي من فضلك...»، كأن الإمام كان يصف هذا المشهد قبل 1200 عام:
«واستنزلوا بعد عزٍ من معاقلهم...»
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 665 - الخميس 01 يوليو 2004م الموافق 13 جمادى الأولى 1425هـ