يعاني الفكر العربي (الإسلامي) في واقعه الراهن من أزمة. ومصدر الأزمة متعدد الوجوه إلا أن الوجه الغالب عليها هو طغيان «الدهشة» على التفكير. وحين تطغى «الدهشة» تتحول مع الأيام إلى نوع من الاستبداد الذاتي الذي يعطل إمكانات التحليل والتفكيك وإعادة تركيب النص.
مشكلة «الدهشة» عربية - إسلامية بامتياز وهي بدأت منذ خمسة قرون ولم يستطع الفكر المعاصر تجاوزها فهو لايزال أسيرها وفشل في تجاوزها. فالدهشة مشكلة لأنها أساسا تصادر العقل وتحدد إمكانات نموه وتدفعه في النهاية إلى الاستسلام والنوم.
بدأت «الدهشة» عسكرية حين استغربت السلطنة العثمانية كيف نجح البرتغاليون (أقوى قوة بحرية أوروبية في القرن الخامس عشر الميلادي) في الوصول بأسطولهم البحري - الحربي إلى البحر الأحمر ومنطقة الخليج. آنذاك لم تكن الاستانة تعلم أن البرتغال نجحت في الدوران حول إفريقيا (رأس الرجاء الصالح) وأن من يعبر تلك النقطة يستطيع الالتفاف حول الدولة الإسلامية والاستغناء عن حاجته إلى خطوط التجارة القديمة التي كانت تمر كلها في أراضي السلطنة.
التفاف البرتغال حول إفريقيا والاستغناء عن حاجتها إلى الوسيط المسلم كان بداية التحول الجغرافي - التاريخي، وشكل خطوة أولى في مسار تقدم الغرب وتراجع العرب.
لم يظهر التحول فجأة بدليل أن السلطنة نجحت لاحقا في نقل قسم من أسطولها البحري - الحربي من المتوسط إلى البحر الأحمر لملاحقة البرتغاليين وطردهم حين حاولوا الاستيلاء على ميناء جدة وصولا إلى مكة المكرمة. إلا أن طرد البرتغاليين أو على الأقل منعهم من توسيع نطاق السيطرة على الجزيرة العربية والساحل الشرقي من إفريقيا لم يمنع البرتغال من تركيز بعض المواقع على مداخل الجزيرة العربية في باب المندب ومضيق هرمز. وشكلت لاحقا تلك النقاط على المداخل مراكز انطلاق لهجمات أخرى على امتداد القرون التالية.
الدوران حول إفريقيا كان بداية التحول في موازين القوى بين العرب (المسلمين) والغرب، مشكلا بذلك نقطة الافتراق بين عالمين: الأول يدافع عن خطوط التجارة القديمة. والثاني يبحث عن خطوط تجارة جديدة تهربا من مراقبة السلطنة العثمانية.
من هذا الرأس (الرجاء الصالح) تأسست خطوط مواصلات بديلة كان لها الفضل في مراكمة الثروة (القوة) بعيدا عن «هيمنة» العالم الإسلامي. ومن هذا الرأس انطلقت قوافل التجارة لتربط الهند والصين مباشرة بأوروبا (البرتغال وبعدها إسبانيا) من دون حاجة إلى المرور في خطوط وطرق نشأت عليها تاريخيا معالم مدن وحضارات. وبسبب هذا التحول في خطوط التجارة الدولية بدأت المعالم العمرانية في الديار الإسلامية بالضمور في وقت أخذت تزدهر المدن البحرية الأوروبية وتراكم الثروة والقوة.
انتهى القرن الخامس عشر بظهور قوة إسبانيا البحرية التي ورثت حضارة المسلمين (العرب والمورو) في الأندلس وشقت طريقها نحو اكتشافات جغرافية قلبت موازين القوى بين العالمين الإسلامي والأوروبي.
اكتشاف أميركا في نهاية القرن رفع إسبانيا إلى الدولة الأولى بحريا في العالم ومنها انتقلت مصادر الثروة والقوة إلى ما تبقى من أوروبا. وأحدث الاكتشاف نقلة نوعية على مستوى تطور الرفاهية الاجتماعية في تلك القارة التي لم تكن حتى ذاك الوقت أكثر تطورا من العرب والمسلمين. فأوروبا مثلا في القرن الرابع عشر ضربها مرض الطاعون وكانت تعاني الفقر والجوع وانعدام فرص العمل فجاءت الاكتشافات الجغرافية لتفتح أمامها أبواب التقدم بعيدا عن المسلمين والعرب. فأميركا آنذاك شكلت الاحتياط الذهبي الذي أغرق أوروبا بالثروة والرفاهية الاجتماعية وبالتالي أعطاها فرصة للتفوق العسكري - البحري على المسلمين.
ومنذ تلك المفارقة (المصادفة والحاجة) أخذت الدهشات تتوالى على العرب والمسلمين وبدأت أوروبا تفرض سيطرتها على المتوسط وتستولي على ثغور المسلمين في المغرب والجزائر وتونس إلى أن كانت حملة نابليون بونابرت على مصر.
جاءت حملة بونابرت بعد أكثر من 300 سنة على اكتشاف أميركا والدوران حول إفريقيا وهي فترة زمنية كافية لنهوض أوروبا وتراجع العرب. ففي تلك القرون الثلاثة تشكلت الفروقات بين العالمين وظهرت الفجوة الزمنية حين بدأت تعبر عن قوتها في السيطرة على الثغور. ففي تلك المسافة الزمنية ظهرت الحركة البروتستنتية (الإصلاح الديني) في أوروبا واكتشفت الآلة البخارية وتطورت الحرف والمهن إلى صناعة. بينما كان العالم العربي (الإسلامي) يستنفد قواه بعد أن أخذت مصادر الثروة القديمة تجف وتتراجع فتدهور العمران أو على الأقل لم ينجح في اللحاق بوتيرة التطور التي شهدتها أوروبا.
شكلت غزوة نابليون صدمة نفسية ووّلدت دهشة جديدة عبّر عنها المؤرخ الجبرتي في كتابات وصفت لحظات الهجوم وتحدثت بدقة وموضوعية عن تلك الهجمة. فالجبرتي المؤرخ يعتبر أفضل من عبّر عن تلك «الدهشة» التي انتهت بالإحباط بعد أن خاب ظنه بوعود نابليون وأكاذيبه.
حملة مصر (1798 - 1799) فتحت باب المشرق العربي على الصراع الدولي - البحري بين القوتين الكبريين آنذاك: فرنسا وبريطانيا. وبدأت المنطقة منذ تلك الغزوة تدفع ضريبة التاريخ والجغرافيا وتفوق الغرب على العرب.
وفي ظل الصراع الفرنسي - البريطاني وتراجع نفوذ السلطة العثمانية برزت محاولات للاستفادة من تلك التعارضات تركزت في معظمها في مصر في عهد محمد علي باشا. إلا أن تلك المحاولات أجهضت بتواطؤ فرنسي - بريطاني فقضي عليها عسكريا ومنعت المنطقة بعدها من استرداد سيادتها واستقلالها إلى فترة طويلة. محاولة مؤسس الأسرة الخديوية في مصر تعتبر واحدة من المحاولات المتكررة للاستفادة من إنجازات الغرب وإعادة تطبيقها في المنطقة. ولكنها جرت كلها ضمن شروط الغرب ورقابته وحين كانت تصل إلى منطقة الخطر (الخطوط الحمر) كان الغرب نفسه ينقلب عليها ويمنعها من التطور. وهذا ما حصل مع محمد علي (1799 - 1849) حين تدخلت الدول الكبرى بعد إبرام معاهدة لندن في العام 1840 وقضت على تجربته الإصلاحية - التحديثية.
وفي ظل أسرة محمد علي تواصلت دهشة المثقف العربي (المسلم). ولم تتجاوز في جوهرها تلك اللمحات التي أشار إليها المؤرخ الجبرتي في أيام غزوة نابليون. رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873) لم يختلف منهجه عن الجبرتي فهو ابن الأزهر وأرسل في بعثة إلى فرنسا للدراسة. والفارق بينه وبين الجبرتي أن الأخير اندهش بعجائب الغرب في القاهرة، بينما الأول اندهش بعجائب الغرب في باريس. فالطهطاوي هو أيضا أفضل من عبّر عن فكر «الدهشة» في زمنه حين وصف رحلته إلى باريس في كتابه «خلاصة الابريز». ومنذ تلك الفترة تواصلت كتابات «الدهشة»، ولم تتوقف إلى أيامنا تلك المفارقات بيننا وبين الغرب ولماذا تخلف العرب وتقدم الغرب؟ ولماذا أوروبا وليس الإسلام؟
حتى الآن لاتزال تلك الأسئلة التي تعبّر عن الدهشة والاستغراب تتردد ولم تتوصل المنطقة إلى تقديم إجابات زمنية عليها. فكل الإجابات منبهرة مسلولة ومسلوبة الإرادة وتطغى عليها الحيرة التي تولد الالتباسات والشكوك وعقد النقص والخجل من الماضي والقلق من المستقبل.
الفكر العربي (الإسلامي) يعيش مأزق «الدهشة» في واقعه الراهن وهو لايزال يراهن على الأجنبي لإنقاذه من ورطته وتخلفه من دون إدراك منه لمعنى التقدم وأسباب التطور وظروفه الموضوعية وعوامله الذاتية. فالدهشة مستمرة منذ أنزل البرتغاليون أسطولهم الحربي في البحر الأحمر وصولا إلى دهشة الجبرتي أيام غزوة نابليون وانتهاء بدهشة الطهطاوي بعد رحلته إلى باريس. وهذه الدهشات لاتزال تكرر نفسها وتفعل فعلها السلبي في منع الفكر العربي (الإسلامي) من التطور. فالدهشة في النهاية تعني عدم القدرة على التفسير التاريخي للتحولات والضعف في إدراك عوامل التقدم والتخلف وفقدان المناعة الذاتية التي تؤدي إلى نوع من الكسل الذهني وتعطل التفكير والسيطرة على النص (أو الواقع) وتفكيكه وتحليله وإعادة تركيبه.
تجاوز «الدهشة» يعتبر محطة مهمة في إعادة صوغ منهج التفكير العربي (الإسلامي)، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال رؤية زمنية للمستقبل وقراءة التحولات التاريخية في إطار معرفة أسبابها وعواملها. فالتحديث (أو الحداثة) ينتج ولا يستورد.
حان الوقت لتجاوز كتابات الطهطاوي. فتلك الكتابات تعكس فترة زمنية عانت من تقهقر تجربة محمد علي باشا ولم تعرف أسباب تطويقها وإحباطها. فجيل الطهطاوي جيل محبط وهو لايزال يتناسل إلى أيامنا، لكن الوقت حان لتجاوزه والانتقال من الدهشة (المشاهدة) إلى المعرفة التاريخية. فالزمن لا يتوقف في محطة. والقوي اليوم ليس بالضرورة هو الأقوى غدا، والضعيف اليوم ليس بالضرورة هو الأضعف غدا. فهذا هو جوهر القراءة الزمنية للمستقبل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 665 - الخميس 01 يوليو 2004م الموافق 13 جمادى الأولى 1425هـ