العدد 2368 - السبت 28 فبراير 2009م الموافق 03 ربيع الاول 1430هـ

الجريمة والعقاب في عالمي المال والسياسة

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

لو كان حقل السياسة يتأثر بما يطرحه الأدب لما شاهدنا الفضيحة التي أمامنا. لنأخذ كمثال ماطرحه الكاتب الروسي ديستوفسكي في قصَته الكلاسيكية: «الجريمة والعقاب» إن بطل القصة لا يستطيع العيش مع مافعله من ارتكاب جريمة قتل بعد أن حاول بشتى الطرق تبرير ارتكابه لتلك الجريمة، تارة بادعائه بأنه هو الذي يجب أن يضع لنفسه القيم الأخلاقية التي تحكم حياته وتارة باحتقاره للضحية وأنها ليست أكثر من دودة قذرة تستحق الموت. وهكذا ينتهي البطل بفقدان أعصابه وتوازنه الداخلي وعيشه في ألم لايطاق مما يدفعه للاعتراف بارتكاب الجريمة، الأمر الذي يؤدي إلى إنزال العقوبة عليه ونفيه إلى سجون أصقاع سيبيريا. وعند ذاك ينتقل البطل إلى جحيم الندم وما يترتب عليه وينتقل الكاتب إلى طرح السؤال الكبير: هل تستطيع مثل هذه الشخصيات أن تجدد إنسانيتها وتستعيد عافيتها الأخلاقية؟

قضية الجريمة والعقاب مبثوثة في كل آداب العالم ومعالجة بعمق، لكنها ليست مطروحة بنفس مستوى الحَدة الأخلاقية في حقول السياسة والمال. وكتاب «الأمير» للسياسي الإيطالي الشهير ماكيا فيلي شاهد على محاولة الفصل بين السياسة والأخلاق.

مناسبة طرح هذا الموضوع المعقد هو الهدوء العجيب المريب في ساحة العقاب بعد انكشاف جرائم السرقات والنَهب والدَوس على قيم الانضباط والمسئولية في حقل المال والاستثمار. كأن السقوط المذهل لمؤسسات المال والاستثمار قد تم بدون فعل فاعل وكأن الملايين من الضحايا ممَن خسروا بيوتهم أو أصبحوا مديونين إلى الأبد أو فقدوا وظائفهم لم يكونوا ضحايا جرائم وإنما كانوا ضحايا تمثيل مسرحي عبثي.

كيف يستطيع سارق خمسين مليار دولار بطرق الاحتيال والنصب أن يبقى طليقا حتى الآن؟ كيف يستطيع مدير بنك انهار، وأنقذته أموال دافعي الضرائب، أن يتقاعد من ذلك البنك ويحصل على راتب تقاعدي بمقدار مليون دولار سنويا ومدى العمر؟ كيف أفلت من العقاب ألوف المسئولين عن استثمارات تضاربية مجنونة أودت بثروات الملايين؟

تلك أسئلة تطرحها جدلية الجريمة والعقاب. ذلك أنه لا القضاء استطاع أن يعاقب ولا السَراق دخلوا في جحيم تأنيب الضمير والشكوك التي دخل فيها بطل رواية «الجريمة والعقاب». والذي انتصر هو منطق الماكيفيلية الانتهازية التي استطاعت أن تبرر ماحدث من إجرام لا للمجرمين فقط وإنما أيضا للضحايا وللقائمين على العدالة. ويظهر أن فريدريك شيلر كان محقا عندما قال إنه جريمة أن تسرق محفظة يد، وشجاعة أن تسرق ثروة، ودلالة عظمة أن تسرق تاج ملك. إن اللوم يتضاءل وينقص كلما كانت الجريمة أكبر. ومن قبل وصف الفيلسوف اليوناني أرسطو وضعنا الحالي جيدا عندما أكد أن أكبر الجرائم لاتتم بدافع الحاجة. ومن المؤكد أن سراق البنوك ومحافظ الاستثمار لم يفعلوا مافعلوه لأنهم كانوا جياعا أو عراة.

ولا يقتصر الأمر نفسه على حقل المال والاقتصاد وإنما يتضح بصورة في عالم السياسية. لقد ساهم الرئيس الأميركي السابق ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق في ارتكاب جرائم العصر في العراق وفي سجون العار عبر الكرة الأرضية. ومع ذلك فلا العالم سيحاسبهما، بل بالعكس سيكرمهما مثلم كرم توني بلير ورفعه، ولا هما سيرف لهما جفن أو يصابا بالحمى والحزن والسهر التي أصيب بها بطل ديستوفسكي.

وهكذا فإن عصر العولمة وابنته الرأسمالية المتوحشه القبيحة والليبراليين الجدد الذين يبررون ماجرى ولا يخافون مما سيجرى، بل وسيعاودون الرجوع إلى مسرح الجريمة وارتكاب المزيد من الجرائم... جميع هؤلاء يمدون ألسنتهم استهزاء واحتقارا لديستوفكي وأمثاله ممن توهموا أن بإمكان مجرمي البشر أن يتوبوا ويندموا ويتجددوا. لقد كتب ديستوفسكي كتابة التالي، «الأبله» كتكملة للكتاب «الجريمة والعقاب»، وذلك ليثبت بأن تجدد الإنسان ممكن. وماعرف ديستوفسكي أنه كان يكتب عنا، نحن بلهاء هذا العصر، الذين يظهر أننا عصيين على أي تجدد أخلاقي

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 2368 - السبت 28 فبراير 2009م الموافق 03 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً