قد تكون من الشواخص البائنة في نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنه شُيّد على أسس دينية خالصة من الناحية الدستورية والنظرية، الأمر الذي أفضى لأن تكون الكثير من القوانين التي نتجت عنه ذات فرادة من ناحية السبك اللغوي وفي المدلول أيضا، وفقا للمناهج الفكرية والفلسفية المُطبَّقة ووفق أفهام قيادات الحكم.
وقد وجدت في عملية البحث في قانون الصحافة والمطبوعات الإيراني أن إرهاصات المواد وطريقة تفسيرها ومعانيها تتحدد وفق تلك المناهج والأطر، فإيران هي دولة إسلامية من حيث العنوان والمُعَنوَن ومادتها الثانية من الدستور تُوضح ذلك جليا مُتأسسة على المبادئ الستة للإسلام والدين، كما أن ديباجة الدستور الإيراني وبالذات الفقرة المتعلقة بوسائل الإعلام تُصرح بتديين الآليات: يجب أن تعمل وسائل الإعلام العامة (الإذاعة والتلفزيون) على نشر الثقافة الإسلامية بموازاة المسيرة التكاملية للثورة الإسلامية، وعليها أن تستفيد - في هذا المجال - من تلاقح الأفكار المختلفة، وأن تحترز بشدة من نشر وإشاعة الاتجاهات الهدّامة والمعادية للإسلام.
بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في فبراير/ شباط 1979 قامت عملية تأميم واسعة للآلة الإعلامية المقروءة والمسموعة والمرئية، وخصوصا على الصحف التي كانت تصدر إبّان عهد الشاه (86 صحيفة كانت تصدر في العام 1978) فتمت عملية تدوير لمناصب التحرير كما تمّ العمل على استبدال إدارتها كصحيفة «كيهان» وأُنشئت صحف جديدة مدعومة من النواة الصلبة للنظام الإسلامي الناشئ وأقيمت لها بؤر توجيهية مُؤدلجة مكّنتها من الاتساق مع الرؤى والنظريات والحركة السياسية الجديدة، وخصوصا أن الأوضاع آنذاك أشبه ما تكون صفيحا ساخنا مشحونا بثقافة الشعار، ساعدها على ذلك بدء الحرب العراقية الإيرانية في 22 سبتمبر/ أيلول 1980 واستمرارها لمدة ثماني سنوات.
كما قامت المجموعات والمنظمات والأحزاب واللجان والفصائل المختلفة بعد الثورة بإصدار صحف تُعبّر عن قناعاتها وتوجهاتها من دون الحصول على ترخيص من الدولة، إلاّ أنه وبعد سبعة أشهر من تاريخ الانتصار صدر القانون الأول للصحافة وصدق عليه مجلس قيادة الثورة في 22 أغسطس/ آب 1979 وذلك قبل إقرار دستور الجمهورية الإسلامية وقد بيّن قانون الصحافة أن آلية الحصول على ترخيص للنشر هو من اختصاص وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي وذلك بعد تثبيت أهلية مُقدّم الطلب من جانب لجنة تمّ تشكيلها لهذا الغرض ومؤلفة من ممثلين عن أصحاب دور النشر والكُتّاب والمحكمة العليا وأساتذة من جامعة طهران وأساتذة من الحوزة العلمية بقم ومحامين من وزارة العدل، ثم تمّت المصادقة على قانون الصحافة من قِبَل البرلمان في العام 1985.
وبعد قيام الإمام الخميني بعزل الشيخ منتظري مُنظّر التيار المُتشدد من منصب خليفة الولي الفقيه ثم قبول إيران بقرار الأمم المتحدة رقم 598 والقاضي بإنهاء الحرب مع العراق وخبوء إعلام وثقافة القتال والتعبئة وبعدها وفاة الإمام الخميني وتولي الإمام الخامنئي مرشدية الثورة الإسلامية وشيوع شعارات التنمية والإعمار قد مكّن من تجديد الأطر السياسية والهموم الجديدة على اتجاهات البلد السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهو ما أثّر بشكل مباشر على الحركة الصحافية والإعلامية، فقد أجيزت الكثير من الصحف وبلغ عددها بنهاية العام 1992 خمسمئة وعشرون صحيفة ومجلة، وارتفع العدد في السنة الأخيرة لولاية الرئيس رفسنجاني الثانية في العام 1997 إلى سبعمئة وثلاثة وأربعين صحيفة ومجلة، وكانت تُطبع ملايين النسخ في اليوم، وبلغ عدد المكتبات بنهاية ولايته الرئاسية إلى 1179 مكتبة.
وبعد وصول الرئيس محمد خاتمي إلى سدة الحكم في 23 مايو/ أيار 1997 ازدادت الحركة الصحافية نوعا وكما ووصلت إلى 800 صحيفة ومجلة، وازدادت في العام 1998 إلى 879 مطبوعة، وبلغت في العام 2001 أكثر من 1064 صحيفة ومجلة تنطق باللغات المتعددة المعتمدة في جميع أنحاء إيران، وكانت الإحصاءات تشير إلى أن الهيئة المعنية بإصدار التراخيص أجازت في الفترة من 1990 - 2000 أكثر من 1486 ترخيص لصحف يومية وأسبوعية وشهرية وفصلية، وأنه في العام 1999 تزايد إصدار الصحف بنسبة 22,4 في المئة بعد أن كانت في العام 18,9 في المئة.
كما وصل معدل استهلاك الورق (طن لكل ألف فرد) إلى 2,4 وهو ما يوازي تقريبا استهلاك مجموع الدول النامية (2,5).
يتكوّن قانون الصحافة الإيراني من ستة فصول هي كالآتي:
وفي هذا المقال سأتناول فقط الفصل الأول من القانون وهو تعريف المطبوعات، على أن أُوَفّق في المستقبل لتناول بقية الفصول بإسهاب وتفصيل.
إن أهم ما يُمكن الوقوف عليه في هذا الباب هو الآتي:
أولا: تركيز القانون على تجنب إثارة النزعات الإثنية بين الأعراق وعدم العبث بهذه الورقة الحسّاسة والخطيرة؛ فإيران هي مجتمع فسيفسائي من عدة أعراق يتشكل من الفرس الذين يسكنون المناطق الوسطى من الشمال حتى الجنوب ويُشكلون 63 في المئة من الشعب الإيراني كما يُوجد هناك الآذريون الذين يعيشون في المناطق الشمالية الغربية من اذربيجان والجهات الشمالية الشرقية من خراسان ويُشكلون 20 في المئة، وهناك العرب الذين يسكنون الأجزاء الجنوبية والسواحل المواجهة للخليج ويُشكلون 7 في المئة، كما يُوجد هناك الأكراد الذين يسكنون مناطق كردستان وإقليم اللور ويشكلون 6 في المئة وهناك أيضا البلوش الذين يعيشون في الجنوب الشرقي من إيران على حدود باكستان وأفغانستان ومن تابعي نظام السردارات القبلية ونسبتهم 2 في المئة، وتوجد أيضا أقليات أخرى مؤلَّفة من المسيحيين والأرمن واليهود والزرادشتيين والبهائيين ونسبتهم 2 في المئة، وبالتالي فإن هذه الحيثية تُعتبر مهمّة ومحسوبة ولا يُمكن التلاعب بها، يُضاف إلى ذلك فإن هناك أكثر من 16 مليونا يتكلمون التركية في إيران، وليس سرا أن نقول إن ناطق نوري هو أحدهم.
لذلك فإن المتابع للحركة الصحافية في إيران سيرى أن الصحف المناطقية المنتظمة بشكل يومي تحتل المرتبة الثانية بعد الصحف الوطنية إذ تُشكل 12,8 في المئة وهو ما يعكس رغبة لدى الحكم في طهران بإقامة عملية موازنة وترشيد للحقوق والممارسات المحفوظة للأعراق المتباينة.
ثانيا: الأمر الآخر والمهم الذي يُبينه الباب الخاص بتعريف المطبوعات هو تسمية بعض المصطلحات المعيشية التي سمّاها بمخلفات استعمارية كالتبذير والاكتفاء الذاتي والعمل على التصدي لها وعدم إيجاد المُسوغات ولا الدواعي المالية أو التجارية لها في المجتمع، لذلك فإنه وفي شهر إبريل/ نيسان من العام 1980 أصدر الإمام الخميني مرسوما يقضي بتشكيل مجلس الثورة الثقافية دعا فيه إلى تعديل غائر في المناهج التعليمية فتمّ التركيز في مناهج الاقتصاد على مبدأ الاكتفاء الذاتي وغرس الإيمان فيه والثقة بالقوى البشرية العاملة، بالإضافة إلى زرع قيم ومبادئ تخدم الخطط التنموية الاقتصادية مثل الوسطية في الاستهلاك وعدم الإسراف في الإنفاق وتشجيع الادخار.
ثالثا: كما يتطرق هذا الباب إلى مسألة اللاشرقية واللاغربية في السياسة الخارجية، وهو المبدأ الذي ابتدعه الإمام الخميني وأكد عليه في الذكرى السنوية الأولى لانتصار الثورة الإسلامية عندما قال «لقد قلت مرارا، وأقول في هذا اليوم العظيم: إن قطع جميع التبعيات من دول الشرق والغرب الكبرى، وجهاد شعبنا الذي لا يقبل المصالحة ضد المستكبرين مستمر» لذلك فإن هذا المبدأ العام يمكن قراءته من خلال الاضطلاع على أسس السياسة الإيرانية الخارجية والتي يُمكن قراءتها بهذه المدخلات:
- المبادئ العامة للثورة والدولة في إيران هي الإسلام: التشيع، الثورية، الثقافة الوطنية، المكانة الإقليمية والدولية، الحاجات الطبيعية لإيران كجزء من المجتمع الدولي، وضمن الفضاء العام لهذه المبادئ حددت السياسة الخارجية الإيرانية ثلاثة أهداف لتحقيقها على الصعيدين المحلي والدولي، وهي:
(1) توفير الأمن وتحقيق التنمية والرفاه الاقتصاديين.
(2) كسب الاحترام على صعيد العلاقات الدولية.
(3) نشر القيم والثقافة الوطنية، وفي هذا الإطار تُصنّف أوليات السياسة الخارجية ضمن أربعة أنواع بحسب محدداتها وهي:
(أ) المكانة في النظام الإقليمي والعالمي أو تحديد الدور الذي ينبغي أن تلعبه إيران هل هو دور إقليمي أم عالمي أم محدود بالعلاقات الثنائية!
(ب) تحديد المناطق الجغرافية التي تُوجد لإيران فيها أو معها مشكلات.
(ت) تحديد القضايا والمسائل الإقليمية والدولية المُرتبطة بنحو ما بالسياسة الخارجية لإيران، وقد حددها الخبراء الاستراتيجيون بخمسين قضية قُسِّمت على أسس مختلفة، كالقرب أو البعد من أهداف السياسة الخارجية الأربعة المذكورة.
(ث) تحديد القضايا وتصنيفها ضمن مسائل لها أولوية قصيرة المدى أو متوسطة المدى أو بعيدة المدى على النحو الآتي:
- القضايا ذات الأولوية قصيرة الأمد (سنة واحدة): هي حل مشكلة الجزر الثلاث وحسم العلاقات مع العراق ثم كيفية التعامل مع الموقف الدولي من قضية التسوية العربية الإسرائيلية وتحديد طبيعة التفاعل معها.
- القضية ذات الأولوية متوسطة المدى (من سنة إلى ثلاث سنوات): هي تنظيم العلاقات الاقتصادية الخارجية وتشمل الديون الخارجية وارتباط التعاون الاقتصادي بالسياسة الإعمارية الجديدة في إيران بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ثم تحديد أطر التنسيق بين سياسات النفط والطاقة مع السياسة الخارجية ثم تحديد السياسة والموقف المطلوبين إزاء روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وأخيرا كيفية الحصول على مكانة أفضل في منطقة الخليج والدول المحيطة بهذا الإقليم.
- أما القضايا ذات الأولوية بعيدة المدى (تتجاوز الثلاث سنوات): فهي نشر الثقافة الإسلامية والإيرانية وحل كل المشكلات مع الغرب، ثم حل المشكلات مع العالم العربي.
وهنا يجب التذكير أن إيران ووفق مناهجها المعلنة والمشاعة لا تجعل من المصالح الوطنية المُعَرَّفَة على أساس القوة المادية هي الضابط والمعيار حتى في ظل تحوّلها من ثورة إلى دولة، لذلك فإن فلسفة السياسة الخارجية لإيران يُمكن عرضها كالآتي:
- إن السياسة الخارجية لا تقوم على عامل متغير واحد بل هي حصيلة مجموعة من المتغيرات الوطنية والإقليمية والدولية.- إن إيران تعمل دوما من أجل تأمين مصالحها الوطنية والمُعَرَّفَة ضمن سياقات المرتكز الديني، وخصوصا أن المصالح الوطنية والمصالح الإسلامية لا يوجد بينها تضاد أو تناف ذاتي ومنطقي، من هنا يُمكن تحديد سمات المصالح الوطنية للجمهورية الإسلامية في إطار النظام القِيَمي السائد في المجتمع الإيراني، علما بأن المصالح الوطنية لكل دولة تتأثر بالمنظومات غير المادية كما هو تأثيرها بالمنظومات والمصادر المادية فضلا عن أن لهويتها الوطنية دورا رئيسيا في تحديدها وتعريفها.
- يتم تعريف هوية الدول من زاوية علاقاتها الاجتماعية وعلى أساس الموائمات الداخلية والخارجية .
- إن منهج الواقعية الصرفة عاجز عن تقديم تحليل منطقي وواقعي للسياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية. وتأسيسا على ذلك فإن إيران تُدرك جيدا التحول الحاصل في طبيعة القوة وتوزيعها، فقد كانت القدرة النظامية ذات يوم هي مصدر القوة الوحيدة في عملية التغيير وأداة الدول لتأمين مصالحها، أما الآن فقد برزت القوة الاقتصادية ثم جاءت قوة ثورة الاتصالات والمعلوماتية، ثم لتغيّر الخطاب السائد في منطق القوة المرتكز على اتفاقات وستفالي المُؤسَّس على المُحاسبة والمعاقبة عسكريا - على رغم أنه بدأ في العودة بعد صعود اليمين المسيحي في واشنطن.
كما أن إيران أخذت في التعاطي مع سياسة التأثير والتفاعل بديناميكية واعية، فعلى رغم حدودها المضطربة والحِديَّة في بعض علاقاتها الخارجية فإنها أبقت سياستها مُؤثِّرة وصاحبة مبادرة وتنظيم بل وقادرة على خلق الفرص وسن القواعد.
بالاضافة إلى كل ذلك فإنها استطاعت أن تتوخى خصائص السياسة الخارجية المناسبة فوحدت خطابها غير المُفضي إلى خصائص نزعة التحجيم والنظرة الشمولية والاستيلاء، وكذلك قدمت الأهداف المحددة والأولويات المُصنفة وفقا لمبدأ أن الأهداف الوطنية أوسع من المصالح الوطنية بل هي مصاديق لها بطبيعتها التجريدية وفي هذه النظرة تكون المصالح الوطنية المعنى الأخص للأهداف، وبالتالي فأن السياسة الخارجية لطهران أخذت لها موقعا ما من بين الاستراتيجيات العامة الأربعة: الانعزالية، عدم الانحياز، المحايدة، والاتحاد والائتلاف واستخدام الوسائل المناسبة لها استنادا للأهداف واتساقها وفاعليتها، مُدعّمة بالوسائل الرباعية للسياسة الخارجية: الدبلوماسية، القوة النظامية، الثروات الاقتصادية والأدوات الثقافية والإعلامية التي عملت بشكل متناغم ومنسجم ضمن إطار طبيعة الدائرة الموضوعية والظروف الدولية وخطاب القوة السائد، وكان ذلك النزول نحو الموائمة بين الأهداف الوطنية أزال نقاط التضاد عبر اعتماد مبدأ الأولوية والأهمية على أساس قاعدة التوسع والتدرج. وكانت هذه الآلية الدقيقة في السياسة الخارجية لإيران أعطت القواعد للمنطلقات الفلسفية لها مجالا أوسع لعملية التطبيق ومن ثم إسقاطها على الاستقلالية في اتخاذ القرارات الداخلية والخارجية وعلى اللاشرقية واللاغربية وهو المبدأ الذي تمّ تعميمه على جَنَبَات النظام الأخرى.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 664 - الأربعاء 30 يونيو 2004م الموافق 12 جمادى الأولى 1425هـ