كان على أفكارنا وعيوننا وآذاننا، أن تتجه جميعا نحو اسطنبول، تلك المدينة التركية التاريخية الفاصلة الواصلة بين الشرق والغرب، بين آسيا وأوروبا، وأحيانا بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية المسيحية. وليس هذا منبع اهتمامنا الراهن، لكن منبعه الأصلي هو الحدث المهم، الذي جرى فيها حين انعقدت قمة حلف الأطلنطي بها وانتهت بالأمس فقط، وحضرها زعماء التحالف العسكري الأوروأميركي، وبحثوا جدول أعمال على أعلى مستوى من الأهمية، بالنسبة إليهم وبالنسبة إلينا أيضا، فقد كان لنا هناك ملف ملغوم نوقش في غيبتنا. على رغم أن حلف الأطلنطي "ناتو" الجناح العسكري القديم للتحالف الغربي، الذي نشأ ليواجه التحالف السوفياتي الشيوعي المنهار بجناحه العسكري، حلف وارسو، قد عقد عدة قمم على مدى العقود الستة الأخيرة، ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخروجه منها منتصرا على التحالف الغازي الفاشي، إلا أن قمة اسطنبول هذه تكتسب أهمية أكبر على أكثر من مستوى... فهي من الناحية الاستراتيجية، شكلت ختاما مرحليا لمجموعة متسارعة من القمم الغربية، بدأت بقمة الدول الصناعية الثماني في ولاية جورجيا الأميركية، ثم قمة التحالف الأوروبي الأميركي قرب العاصمة الإيرلندية دبلن، ثم قمة حلف الأطلنطي المعنية في اسطنبول. وكان المحور الرئيسي الذي انشغلت به كل هذه القمم، هو ببساطة وتركيز "إعادة هندسة الكون" كما سبق أن كتبنا عنها تحت هذا العنوان من قبل، والمعنى هو الخروج باستراتيجية غربية جديدة لإعادة رسم خرائط العالم، ومن ثم تقسيم النفوذ والمصالح، وتوزيع المهمات وتحديد المسئوليات، في ظل تحولات كبرى في العلاقات الدولية، وتغيرات في الصراع ضد الأعداء، من العدو السوفياتي بالأمس، إلى الإرهاب الدولي "أو الإسلامي" عدو اليوم. ولعل من أهم هذه التحولات الكبرى، أولا غياب المعسكر المعادي، أي الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، وانهيار التحدي العسكري الذي كان يمثله حلف وارسو المضاد، وثانيا تغييب دور الأمم المتحدة كمنظمة عالمية، أنشأت بعيد الحرب العالمية الثانية لتتولى تنظيم العلاقات الدولية وفق أسس جديدة، تغاير ما كانت تقوم عليه عصبة الأمم التي أنشأت بعد الحرب العالمية الأولى. وفي الحالتين خرج التحالف الغربي - الأوروأميركي - منتصرا ايديولوجيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، وأصبح اليوم وحيد الغابة وأسدها المنفرد، تقوده القوة الأميركية صاحبة النفوذ الأقوى والاقتصاد الأضخم والآلة العسكرية الأحدث، وهذه تقودها الآن المقابل ايديولوجية أصولية يمينية، ذات نزعة امبراطورية توسعية، تؤمن بأن أميركا وحدها سيدة العالم، وعلى الباقي حتى الحلفاء الخضوع والطاعة، وفق عقيدة "المحافظين الجدد"... وما تريده أميركا باختصار أن توافق كل هذه القمم الغربية، على مشروعها الكوني، والذي يحتل "مشروع الشرق الأوسط الموسع وشمال إفريقيا" مكانة محورية فيه ذات أولوية عاجلة، تستدعي تعبئة إمكانات الحلفاء السياسيين، وخصوصا دول الاتحاد الأوروبي - 52 دولة - وتعني حشد القدرات العسكرية أيضا لحلف الأطلسي باعتباره الذراع العسكرية للتحالف الغربي. ولم يعد سرا أن التوجه الأوروأميركي الراهن، لإعطاء حلف الأطلنطي، مهمات استراتيجية جديدة، توسع مجالات عمله خارج القارة الأوروبية، لأول مرة بهذا الشكل السافر والواسع، هدفه دفع الآلة العسكرية الجبارة للتحالف الغربي، إلى الانخراط مباشرة في المشكلات والصراعات والحروب والأزمات التي تعصف بقارات أخرى، وخصوصا إفريقيا وآسيا، اللتين تؤويان كل العرب ومعظم مسلمي العالم. ولم يعد سرا أيضا أن محادثات طويلة ومشاورات مستمرة وربما اتفاقات غير معلنة جرت وتجري، على مدى السنوات الأخيرة، بين حلف الأطلنطي وقيادته العسكرية مباشرة، وبين كثير من الدول العربية والإسلامية، للتنسيق معها، أو التحالف المباشر، أو حتى إعطائها العضوية المنتسبة، التي قد تتحول إلى عضوية دائمة وأصيلة في المستقبل إن حازت الرضا السامي! والأمر هنا وبهذا التطور السريع، يعني توسيع "مظلة الأطلنطي" الأمنية والدفاعية والحمائية، لتخرج من الأفق الأوروبي الضيق، إلى الآفاق الأوسع الممتدة من موريتانيا والمغرب على ساحل الأطلنطي غربا، حتى حدود الصين والبحر الأصفر شرقا، ومن كيب تاون ورأس الرجاء الصالح جنوبا، حتى حدود القوقاز شمالا، مبتلعة كل الوطن العربي ومعظم العالم الإسلامي، بداية، ثم محاصرة الصين وروسيا، أهم قوتين محتملتين في مجال المنافسة والصراع في النهاية. من هنا تأتي أهمية التوجه بأفكارنا وعقولنا وآذاننا إلى قمة اسطنبول، لأنها القمة التي ستقرر هذا التوسع الاستراتيجي المهم لحلف الأطلنطي، والتي تكلفه بمهمات عسكرية وأمنية جديدة عليه وعلينا، ومن ثم ستضعنا - شئنا أم أبينا - بين فكي كماشة التحالف الغربي، وتخضعنا لشروطه وضوابطه، وتطالبنا بتنفيذ أوامره، باعتبارنا قوة مستضعفة لم تعد تملك من أسلحة القوة شيئا تدافع بها عن استقلالها الوطني والقومي. ولا ندري إن كانت "المطابخ السياسية" ومراكز اتخاذ القرار السياسي، وجماعات المستشارين عند حكامنا، قد درست ووعت أهمية ما تعده هذه القمم الغربية المتلاحقة، وصولا إلى تكليف حلف الأطلنطي بمهمات توسعية جديدة تشملنا، أم أنها مازالت غائبة عن الوعي حائرة الفكر، معتمدة على سياسات التجاهل أحيانا أو التخاذل أحيانا أخرى، كما رأينا ردود فعلها تجاه ما جرى في قمة الدول الصناعية الثماني، وما صدر عنها من وثائق تتعلق بنا مباشرة، سواء وثيقة المشاركة من أجل التقدم والمستقبل، أو وثيقة الإصلاح في العالم العربي خصوصا، وما تفرضه علينا من خطط ومشروعات وإصلاحات ومشاركات تم إخضاعنا للمراقبة والمحاسبة! والحقيقة أن شعوبنا معذورة حين تغضب على التحالف الغربي، وتشن على أميركا حملات الكراهية، بحكم ما تعانيه يوميا، لكن غضبها الحقيقي يجب أن ينصب على حكوماتها ونظمها بالدرجة الأولى، وعلى جماعات السياسيين والأكاديميين والمثقفين، الذين انخرطوا، طواعية أو إغراء، في الحلقات الضيقة والمغلقة لمستشاري الحكم وعقوله المفكرة والمخططة، بعدما أثبتت الحوادث المداهمة والمتغيرات الهائجة، عجزا رهيبا في الخيال والتفكير المستقبلي، بل حتى في القراءة الصحيحة لمجمل هذه التطورات. وبعد أن فشلت نظمنا الحاكمة، ومستشاروها العباقرة، في استشراف المستقبل، وفي قراءة الحاضر ودراسة الواقع، ومن ثم في المبادرة بإجراء إصلاحات جذرية في نظم الحكم وهياكله ومؤسساته وتشريعاته، وفي إدارة المجتمع واقتصاداته وضبط حركته الاجتماعية والثقافية، لتتوافق مع عصر الحريات الديمقراطية، وتلتقي مع معايير حقوق الإنسان، وتزدهر بحرية الرأي والتعبير والعقل والتفكير والاجتهاد، ما أوقعنا في هوة التخلف والفقر والاستبداد. جاءتها المفاجأة من التحالف الغربي بزعامة الولايات المتحدة، لتفرض مشروعات الإصلاح التي تراها مناسبة وضرورية، طالما فشلنا نحن في تحقيقها، وأصبحت الولايات المتحدة الأميركية، في ضغطها على النظم العربية للقبول بهذه الإصلاحات، تمتلك في يدها "شرعية دولية استثنائية"، كفلتها لها القمم الغربية الثلاث التي تحدثنا عنها، وضمنت قمة الأطلنطي الأخيرة لها وسائل التنفيذ والحماية بل والمراقبة والمحاسبة، وإن غدا لناظره قريب! غدا سنرى، درجة التنسيق العالمية بين أقطاب التحالف الأوروبي الأميركي، في التدخل المباشر في شئوننا، بزعم فرض الإصلاح الديمقراطي، وفق ما قررته القمم الغربية الثلاث واعتمدته منهجا وسلوكا، وغدا سنرى على الطبيعة، كيف سيتدخل الجناح العسكري، "حلف الأطلنطي"، بكل قواه لفرض الإصلاحات، بل لفرض التسويات في مناطق الصراعات وبؤر التوتر التي تحتشد بقوة مخيفة في منطقتنا، التي دخلت رسميا وعمليا تحت جناح الأطلنطي، وغدا سنرى "مجلس الوصاية" الغربي وهو يمارس حقه في ابتلاع حقوقنا، من دون أن نحرك ساكنا، لأننا أهدرنا من الأصل شرعية هذه الحقوق الوطنية والقومية، حين استباحتها "نظم وطنية وقومية" أو هكذا عنوانها! الآن... يكثر الحديث - اللغو الأجوف والرطانة اللفظية - عن الإصلاح من الداخل من دون فرض من الخارج، ولكننا نعلم ويعلمون، أنه حديث سياسي إعلامي دعائي، هدفه الاستهلاك المحلي، بينما الحقيقة أن الخواء الداخلي، الذي نخر فيه سوس الفقر والفساد والاستبداد، قد أوصل أحوالنا إلى مرحلة عدم القدرة على مقاومة التدخل الخارجي المتسارع، تحت قيادة أميركية منفلتة وتوسعية ومتطرفة أيضا، الكل يتظاهر بالرفض، والكل يقبل في النهاية بما هو مفروض ومطلوب، لأن الرفض والممانعة، يتطلبان إرادة سياسية قوية، وإمكانات ذاتية داخلية قادرة على مواجهة التحدي... وحين أصبحت شعوبنا تئن وتتوجع من كل هذه الأمراض الشرسة الهاجمة من الداخل ومن الخارج، بريت أقلامنا على مدى السنين من التحذير والتنبيه، من دون جدوى، حتى جاءت أميركا على رأس التحالف الغربي الهائل، تفرض علينا أجندتها، التي ظاهرها الإصلاح وباطنها الإفساد، لأن ما تريده هو الاحتلال وفرض النفوذ وتدعيم "إسرائيل"، وتغيير أنماط الفكر وتعديل العقائد، باسم مقاومة ثقافة التطرف والإرهاب. ولم يعد، في ظل ذلك كله، مثيرا للدهشة، تعالي صراخ "تحالف المتأمركين العرب"، الذي يطالب ويرحب بالتدخل الأميركي المباشر لفرض الإصلاح حتى بقوة حلف الأطلنطي العسكرية، وبالمقابل أصبح مثيرا للدهشة أن نظل نحن وأمثالنا متمسكين بأمل الإصلاح من الداخل، اعتمادا على قوى المجتمع الحية، التي إن تحركت لفعلت الكثير... والمثير!
خير الكلام
يقول أبوفراس الحمداني: يا أمة لا تخطئ الأجر إنه على قدر الصبر الجميل جزيل
*مدير تحرير صحيفة "الأهرام
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 664 - الأربعاء 30 يونيو 2004م الموافق 12 جمادى الأولى 1425هـ