مزورو التاريخ اتخذوا من اللغة مدخلا أول. حتى التزوير الذي طال الجغرافيا وتحت غطاء قانوني كان مدخله الأول اللغة، واذا ما ذهبنا عميقا في هذه المسألة، فسنجد أنه لم تدخر بعض الحركات والمذاهب والتيارات الفكرية الأولى في التاريخين العربي والاسلامي جهدا في سبيل أن تكون اللغة هي سلاحها الماضي الذي سيلعب فيه التأويل وحتى استغلال تعدد القراءات بتبني قراءة من دون أخرى دورا في تحقيق افحام هنا وخذلان هناك. كانت اللغة تتعرض لحالات من الاستغلال والتجيير غير الأخلاقي لتحقيق نصر هنا واستقطاب أنصار هناك. مدعاة هذا الكلام، هو ما حدث في أمسية أسرة الأدباء والكتاب، وكان محورها واحدا من "شعراء" التسعينات، وللعلم فقط، ما حدث ليس اكتشافا جديدا أو سابقة في التجاوز الفاضح في قراءة "الشاعر" المذكور لـ "نصوصه"، مع تحفظي هنا على تسميتها بـ "النصوص". السابقة في الأمر أن الكيل طفح ببعض من حضر الأمسية، وفيهم أحرار إن على مستوى الموقف الإنساني، أو على مستوى غيرتهم الكبيرة على اللغة ومنافحتهم عنها، تلك هي السابقة، وليست كما اعتبر الزميل العزيز حسين مرهون، موقف "الشاعر" إياه بإعلانه التوقف عن قراءة "نصوصه" والاكتفاء بطبعها في ديوان، سابقة على مستوى الساحة المحلية، اذ كان حريا بـ "الشاعر" اياه أن يكون أكثر فطنة وكياسة بإعلان انه سينكب على دراسة اللغة وتعلم قواعدها كما يجب، فلعل ذلك يسجل له موقفا فيه من الجرأة والشجاعة الشيء الكثير، ما يدفعنا لاحترامه وتقديره أكثر من ذي قبل، ولكن "الشاعر" في موقف نعي شخصي وفي موقف "استعطافي" قرر الامتناع عن قراءة "نصوصه" فقط، فيما جزء من قيمة النص وذروة حضوره تتصاعد وتعلو أكثر بقراءة كاتبه له لا بقراءة متلقيه! وهنا لابد من الإدلاء بشهادة: ان "الرجل" إياه واحد من أكثر القراء نهما في اقباله على آخر الاصدارات، ولكن الشهادة اياها بحاجة الى ايضاح: ان مردود تلك القراءة يكاد لا يذكر، ان على مستوى "المقال" أو مستوى "النص"، عدا عن الحوارات التي يجريها إذ لا تعرف لها "رأسا" من "رجل"! أحب "الرجل" اياه إنسانا، ولكنني لا أخفي انزعاجي من تطفله الدؤوب على كتابة - والأهم - قراءة تعمل على الإساءة لإنسانيته بصورة أو أخرى، اذ ليس عيبا أن ينسحب المرء من أوهامه، خصوصا أوهام أن يأتي بما لا يقل عن المعجز، فيما هو لم يتجاوز الركيك والهش من الكلام العابر، بل العيب أن يصر المرء على ادمان مثل تلك الممارسة وهي تؤدي به الى مساحات من العقم والتهلكة! يبقى الفصل الساخر والجارح في تلك الأمسية، "الفزعة الرخوة" التي تبنتها مجموعة من المتطفلين، من طبقة "موظفي العلاقات العامة" في الكثير من الدوائر الحكومية في الوطن العربي، حين وجدت أن "الرجل" أسقط في يده، ولم يحر جوابا، فكان لابد من معالجة للموقف وان جاءت مكلفة على حساب سمعتها، ما دامت ستستيقظ صباحا وهي لما تفقد مصدر رزقها! ما الذي ترمي اليه تلك الجوقة بدفاعها المستميت عن قبح مستأصل؟ ألا يدل ذلك على حال من "الانتهازية" الواضحة هي في الصميم من تعطل المدارك، والجهل المتسيد والنفاق المقيم؟ ثم من قال ان خيانة اللغة تقل تدميرا وخروجا على النظام عن خيانة وطن وأمة؟ بل الأولى أشد ضررا ووطأة. ونظل نغفر للجهلة جهلهم الا اننا لن نغفر لهم وضع "الجمالية" في خانة "القبح"، لن نغفر لهم تبريراتهم التي سيضمنون بها أرزاقهم فيما يتركون اللغة في عراء قاتل، ويبيحون لـ "الرجل" انتهاك حرمتها، متى وأنى شاء. وهنا لا بد من التنويه بحكمة وأبوة الزميل الشاعر ابراهيم بوهندي بإشارته الى أن ترك "الرجل" اياه وأمثاله يعيثون في اللغة فسادا وتخريبا، هو ما طمأنهم على ان طريقهم غير محفوفة بالمساءلة!
يسألونك عن النص قل هو عرضة لسماسرة المنصات ونقاد فقه المصالح وسدنة الخراب المقيم... يسألونك عن النص قل له رب لغة يحميه وان تكالبت عليه أبابيل الفضائح وقهر المجدفين باسم الإباحة!
تبعث على القرف تلك الوجوه المنتصبة كتمثال لحمي انتهكت حرمته ديدان الأرض!
ما الذي يريده أحدهم؟ أن يأخذ اللغة بيدها ظنا منه أنه سيعبر بها شارعا مزدحما بالمركبات الطائشة فيما هو يسلمها الى سحق أكيد؟
تظل "ليلى" جميلة وإن بدت في صورة غول ولكنا لن نستغفل بانهماك الذئب بتحضير مكياجه الرخيص ليثبت لنا انه حصيلة اخضرار الغابة فيما هو عاهل لمواسم الرماد!
وعلى الجوقة التي تفكر بمعدتها أن تبحث لها عن نص من رجس تلوح به لإثبات حسن نواياها!
فيما يذهب الشاعر إلى النص وقد هتك آخر أفق في سمائه يتطلع الساذج الى حذائه طمعا في أفق مستحيل!
يدوزن صاحب الصنعة أصابعه فيما خالق المعادلة يدوزن مخلوقات الغيب!
وماذا بعد؟ يسأل حكيم شهد المجزرة لا شئ سوى أن نترك الضحايا يتكفلون بغفلة جلادها
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 664 - الأربعاء 30 يونيو 2004م الموافق 12 جمادى الأولى 1425هـ