انتهت أمس وسط إجراءات أمن استثنائية قمة الحلف الأطلسي في اسطنبول. فأكبر قوة عسكرية في العالم خائفة أو على الأقل تدّعي الخوف من مجموعات مسلحة أو منظمات وهمية لا يعرف من هي، ومن يديرها، ولمصلحة من تعمل؟ المهم أن أكبر قوة في العالم خائفة من مجهول أو من المجهول. فهذه القوة تستطيع فعل ما تريده وتدمير أكبر قوة مضادة في أيام ومع ذلك فهي خائفة.
هذا فعلا من سخرية القدر. العالم يخاف من قوة «الحلف الأطلسي»، ودول الأطلسي تخاف من مجهولين. وعلى العالم أن يصدق. هل يصدق أعضاء الحلف أم يصدق أن هناك قوة أخرى مجهولة الاسم والعنوان تخوف فعلا الحلف الأطلسي؟
لاشك في أن للخوف أسبابه. فالمجرم مثلا يشعر دائما بعدم اطمئنان، وتسيطر عليه علامات التوتر وعدم الثقة والارتباك. والسارق كذلك. والناهب. كل هذه الاصناف ومن على شاكلتها تشعر دائما بالخوف، وتشعر أنها مراقبة وملاحقة ومهددة.
الأمر نفسه ينطبق على الدول الكبرى، وتحديدا الولايات المتحدة، فهي نجحت في تأسيس قوة عسكرية لا تقهر وأكلت أخضر العالم ويابسه واحتكرت الثروة وتطمع في السيطرة على مصادرها في كل بقاع الأرض ولكنها تتصرف مثل ذاك المجرم أو السارق أو الناهب أو الجشع أو المرتشي.
الدول الكبرى ليست بعيدة في تركيبها النفسي وتوترها عن ذاك الصنف من اللصوص الذي يشعر أن الإثم يلاحقه وأنه مراقب وأن «النعمة» التي يعيشها ليست دائمة.
دول الحلف الأطلسي اختتمت قمتها وسط إجراءات أمنية استثنائية وبحثت في جملة قضايا ساخنة وأجواء ما تدّعيه من مخاوف مسيطرة عليها. فهل هذا صحيح أم هي عقدة المجرم الذي ارتكب جريمته ويريد تغطيتها، ويشعر دائما أن الكل يعرف ويعلم عن الجريمة وينتظر اللحظة المناسبة لإلقاء القبض عليه ومحاكمته.
يرجح أن تكون مخاوف دول الأطلسي نفسية، وهي ليست بعيدة في سلوكياتها عن ذاك الاضطراب الداخلي والقلق الدائم والتوتر المشحون بالكراهية الذي يصدر من المجرم. فالتصرفات متشابهة لأن الأسباب متشابهة.
الولايات المتحدة مهما بلغت من القوة والجبروت ستبقى عقدة الخوف مسيطرة عليها لتبرير سلوكيات التوتر والعنف والحروب بذريعة ملاحقة الاعداء في كل زمان ومكان. ومهما فعلت أميركا وتجبرت واكتنزت الثروة واحتكرت مصادر رزق الشعوب فإنها ستبقى دولة خائفة ومخيفة. فالعالم يخاف منها ولا يحترمها مهما تشدقت بالديمقراطية وحقوق الإنسان ونشر مبادئ العدالة. كذلك ستبقى خائفة لأن عقدة الذنب (حتى لو لم تعترف إدارتها بوجودها) تلاحقها وتسيطر عليها وتسد أمامها طرق الانفتاح وكسب ثقة الشعوب.
إدارة جورج بوش بدأت منذ أشهر قليلة سياسة تبديل الاقنعة حين اكتشفت أنها استعدت العالم وربحت العراق. وزاد من طين إدارة بوش بلة حين فشلت الولايات المتحدة في اثبات الدليل على صحة عدوانها، ثم زاد البلة المزيد من الطين حين ارتكبت قواتها المجازر ضد المدنيين والتجاوزات ضد حقوق الإنسان في أبوغريب وغيره. إدارة بوش هذه وقبل شهور من الانتخابات الرئاسية وافقت أخيرا وبعد ضغوط داخلية على فتح تحقيق في حوادث 11 سبتمبر/ أيلول، ثم وافقت على فتح جلسات استماع في الكونغرس لمعرفة ماذا يجري في سجن أبوغريب وسمعة أميركا التي تشوهت في العالم. وإدارة بوش وافقت بعد تكبر وطول غياب على إعادة بعض أوراق الملف العراقي إلى مجلس الأمن وأرفقت خطواتها بالانفتاح مجددا على أصدقاء أميركا في أوروبا، ثم انفتحت قليلا على الاتحاد الأوروبي وسايرت دوله في بعض النقاط والخطوات، وتنازلت عن بعض مشروعها التقويضي في العالم العربي، واستدركت بعض المطالب الأوروبية وأدخلتها في برنامج «الشراكة من أجل المستقبل» في قمة سي آيلاند. والآن تريد إدارة بوش توريط الحلف الأطلسي أو بعضه في رمال العراق وتحويل دول الناتو إلى شريك في الجريمة بعد أن لعب دور الشاهد عليها.
إنه الخوف من الآخر أم هي لعبة تبديل الاقنعة لكسب الوقت الضائع بين التورط في جريمة والانسحاب منها أو مشاركة الغير في تحمل مسئولية نتائجها؟
الاحتمال الثاني هو المرجح. ولكن الأول ليس مستبعدا. فمعادلة القوة لا تستقر على الجيوش. فالعدل في النهاية أقوى
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 663 - الثلثاء 29 يونيو 2004م الموافق 11 جمادى الأولى 1425هـ