كانت الخطة «ألف» المراد تطبيقها في العراق، على ذمة مجلة «نيويورك» الأميركية، واسعة الاطلاع، والصادرة هذا الأسبوع، على أنه بامكان الولايات المتحدة بعدد معقول من القوات المسلحة ولوحدها من دون عون دولي، أن تبسط نفوذها على العراق مباشرة، بعد تحريره من النظام السابق المكروه على نطاق واسع بين الفئات العراقية المختلفة، من دون الاستعانة بقوات كبيرة أو بقوات من خارج الولايات المتحدة نفسها.
واعتمدت هذه الخطة على تحليل يقول إن الفئات العراقية المختلفة في الطيف العراقي السياسي والعرقي والطائفي، تضررت من النظام السابق، كل بطريقة ما، الأكراد والشيعة والسنة، فهي جميعا ستكون عونا (للاستقرار) الذي تتوق إليه وتحريرها من نظام قمعي بالغ القسوة يسهل بناء عراق متوافق جديد.
تلك كانت الخطة، وكان لها منظروها الكُثر، الا أن هذه الخطة تبين مظاهر فشلها بد ءا من الصيف الماضي، وتضيف المجلة أن الإسرائيليين حذروا الإدارة الأميركية من الاحتمال الأكيد لتصاعد المقاومة، وخصوصا المقاومة المسنودة من إيران، ومن بعض دول الجوار، ذات المصلحة الحقيقية في عدم تمكين الولايات المتحدة من النجاح، خوفا من الأمثولة، فالحدود الطويلة التي تربط إيران بالعراق وتمتد لتسع مئة ميل طولا، تجعل من تدفق الإيرانيين أمرا ميسورا إلى مدن العراق وخصوصا الجنوبية، الا أن الإدارة الأميركية وقتها لم تقبل أن تأخذ بفكرة قفل الحدود لعدد من الأسباب، منها أن العملية تحتاج إلى مال ورجال غير متوافرين، وأنها أيضا لا تريد أن تقفل العراق عن الخارج، فتدفق الإيرانيين إلى العتبات المقدسة هو تدفق طبيعي للزيارة (الدينية) وبعض التجارة.
ومع تصاعد المقاومة العراقية من فئات مختلفة كل منها يريد مباشرة أو غير مباشرة أن تكون له اليد الطولى في عراق المستقبل، وان تؤول إليه الأمور في النهاية، أو يطمح إلى تصفية حسابات أخرى قديمة وجديدة في الساحة العراقية، اتخذت إدارة الاحتلال طريقة أخرى في مواجهة المقاومة، وهي الحصول على أكبر قدر من المعلومات من أجل التمكن من محاربة (المقاومة) المتزايدة، فأرخت للمحققين العنان لاستخدام طرق ووسائل مناسبة للحصول على المعلومات من أجل إفشال خطط التخريب كما رأتها، وقاد - ذلك الارخاء في مدونة طرق التحقيق- في النهاية إلى فضيحة سجن أبوغريب، التي زادت بدورها من النفور الواسع من ممارسات الاحتلال، وسهلت تجنيد فئات جديدة لمقاومة الاحتلال، عدا الصيت السيئ للإدارة الأميركية.
الأكراد و«إسرائيل»
ذكرت المجلة أن الخطة «ب» التي وضعت موضع التنفيذ هي التوجه إلى تسليم العراقيين السلطة التي تنفذ أولى مراحلها خلال أيام تسلم الحكومة العراقية الجديدة، الا أن احد مخاطرها التعاون الأكبر بين الإسرائيليين وبين الأكراد في الشمال، في غمرة انشغال الحكومة الجديدة بالإرهاب المحلي وعدم قدرتها على «ضبط» الإخوة الأكراد في الشمال، ويساعد على ذلك عدم الاستقرار المشاهد، الذي يقود في نهاية الأمر إلى تقسيم العراق. فالعراق السابق، في نظر الأكراد، لا يمكن أن يعود من جديد بنفوذ بغداد على الجميع وخصوصا الأكراد، وكلما طالت فترة الاضطراب زاد شك الأكراد في الحصول على عراق واحد وفيدرالي في الوقت نفسه. لذلك فان الشك القديم يزداد تجذرا كلما ازداد الوضع في العراق تأزما، والمعادلة بين التقسيم وبين الاضطراب هي معادلة طردية، فكلما زاد الاضطراب في العراق كان تقسيمه اقرب إلى اليقين من الشك.
ولعل الخطة «ب» وجدت طريقها إلى التنفيذ الذي يمكن رصده في عدد من المظاهر المعلنة، منها على سبيل المثال: ان الأكراد أبدوا الكثير من عدم الرضا إلى درجة التهديد بالانسحاب من الحكومة الجديدة، لأن قرار مجلس الأمن الأخير لم يستجب لرغبتهم في تأكيد الالتزام بقانون الحكم المؤقت، الذي بدوره يعطيهم حقوقا كانوا يطالبون بها منذ زمن طويل، ويؤكد من جانب آخر خطى الفيدرالية المتوافق عليها لفظيا بين القوى العراقية التي كانت تقاوم النظام السابق.
ومن المظاهر الأخرى الفتور الذي أصاب العلاقات الإسرائيلية التركية في الأسابيع الأخيرة، إلى درجة سحب السفير التركي من تل أبيب، كما تزايد نشاط تركيا في حلقات اجتماعات دول الجوار العراقي، من أجل تأكيد «وحدة» العراق، خوفا من دولة أو شبه دولة كردية في جنوب تركيا، تعيد من جديد إحياء آمال الأكراد الأتراك في تأمين حقوق أفضل لهم في تركيا أو ربما في السيناريو الأخير الانفصال عنها. وبهدوء سمحت السلطات التركية للتلفزيون التركي للبث باللغة الكردية، وتم إطلاق بعض المعارضين الأكراد من السجون، لاحتواء أية تأثيرات سلبية على ما يمكن أن يحدث للأكراد في تركيا مقارنة ببني قوميتهم العراقيين.
الورقة الكردية تُسمع أيضا في إيران وفي سورية، ومن اللافت أن التحدي الأكبر الذي واجهه السوريون أخيرا كان من الأكراد، وقد يواجه الإيرانيون مثل ذاك التحدي، فلديهم أيضا ليس أقلية كردية فقط ولكن مجموعات أخرى من الأقليات المختلفة التي قد تبدأ بمطالبات سياسية اكبر.
(المقاومة) العراقية بشكلها وبمنهجها والتي من المتوقع أن تتصاعد بعد تسليم السلطة هي بمثابة عود الكبريت الذي يشعله الفرد لتدخين سيجارة في جو معبأ بمواد الاحتراق، فيحترق البيت عن بكرة أبيه، وكلما طال اشتعال عود الكبريت ذاك (الاضطراب في العراق) أصبح من الممكن أن تشتعل أماكن أخرى في المنطقة.
أول المستفيدين من الاشتعال غير المنضبط هو «إسرائيل» طبعا، فتحالفها مع الأقليات في دول الجوار، التي ترى في ذلك التحالف مصلحتها، يعني أن تضع أولا يدها في المنطقة خلف دول الجوار العربي، وتستطيع من هناك أن تضغط على ظهر هذا الدول، وثانيا لها مصلحة في تقسيم الدول القائمة إلى عدد من الدويلات الصغيرة ليقل التهديد التأريخي لها في المنطقة.
إنما هذا الاشتعال المشاهد لا يفيد «إسرائيل» فقط ولكنه أيضا يأتي بالضرر الكبير لدول المنطقة المجاورة، فخروج شهية الأقليات إلى العلن سيشجع تأكيدا على أن تقوم هذه الاقليات، وخصوصا في المجتمعات التي تحرمها من حقوقها، برفع وتيرة مطالبها ليس الحياتية ولكن أيضا السياسية، ما يعرض المنطقة لمخاطر أكبر، وخصوصا في ضوء غياب توافق وطني شامل على المواطنة وحقوقها.
في نهاية المطاف، الاضطراب المشاهد، في العراق ينذر بخطر قادم، وهو خطر لن يبقى في العراق وداخل حدوده بل سيفيض إلى خارجه، ومن هنا يأتي السؤال المطروح، انه في حال استمرار تطبيق الخطة «ب» التي تقود إلى التقسيم هل يبقى أحد من الجوار آمنا؟
إذا كان الجواب على ذاك السؤال بالنفي الأكيد، فلماذا إذا لا تتبدل الخطط من تأجيج مباشر أو غير مباشر إلى «تعاون» مع الحكومة العراقية الجديدة لإطفاء الحرائق هناك حتى لا تتحول إلى حرائق واسعة يعز إطفاؤها
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 662 - الإثنين 28 يونيو 2004م الموافق 10 جمادى الأولى 1425هـ