أثناء تغطيتي للمرسم الحر في يوم التضامن مع سجناء الرأي والحرية في العالم، طلب أحد الزوّار هناك أن يتحدّث معي في موضوعٍ خاص، فانتحيت معه جانبا إلى زاوية هادئة بمجمع البحرين، وأخذت أستمع إليه. بدأ بالقول إن لديه حقائق يريد أن يرد بها على أحد الكتبة الطائفيين المعروفين في البلد، فاستمعت إلى حكايته التي أقدمها إلى القراء الباحثين عن الحقيقة وسط هذا الظلام والهوس والحقد ونوبات الصرع التي تملي على القلم كل ذلك الجنون.
يقول صاحبنا: «إن ما كتبه هذا المهووس بعيد عن الحقائق، وكل كلامه مردود عليه بالحقائق التي سأذكرها لك بكل صدق، ويمكنني أن أجمع لك العشرات من الشهود على كلامي. بل يمكنك أن تذهب إلى «الفريق» (الحطب/ كانو) لتتأكد بنفسك. فالشهيد مزاحم الشتر كان من أبناء الوطن الذين لم تلوّثهم هذه النعرات الطائفية المقيتة، والدليل أنه كان يشارك في مآتم المنامة، وتحديدا مأتم الحاج خلف للرجال، ومأتم السادة للنساء، ويشارك أبناء وطنه في مواكب العزاء وتعليق «السواد» داخل المأتم عند مقدم شهر محرم، ويتبرع بإحضار قوالب الثلج ويساعد النساء في نقل قدور الطبخ وأدواته. وأهله الكرام يذكرون ذلك جيدا باعتزاز، وكانوا يتبرعون ببعض المواد الغذائية للمأتم».
كل ما قاله المتحدث حتّى الآن ربما لا تكون له تلك الدلالة التي يردّ بها على الكاتب المذكور، الذي يرى الثور فيقول إنه بقرة، فليس مخالفا لطبيعة أهل البحرين السمحة أن يتشارك المواطنون من الطائفتين في أفراحهم وأتراحهم ومناسباتهم، آخرها تلك اللفتة الجميلة حين وقف قبل شهر تقريبا، عددٌ من أبنائهما جنبا إلى جنب في حفل الزواج الجماعي في مدينة حمد. لكن ما قد يهمّ القارئ، ولو من باب تقديم رواية غير مكتوبة لمصلحة التاريخ وبما يخدم الوطن، ما ذكره الشاهد عن أجواء تلك الفترة المتوترة سياسيا، يقول: «وصلنا الخبر بعد يومين من استشهاد مزاحم الشتر رحمه الله، وفي تلك الفترة لم يبادر أحدٌ من العروبيين ولا القوميين أو البعثيين وحتى الإسلاميين إلى إقامة مجلس الفاتحة على روح الشهيد نظرا إلى الظروف الأمنية السائدة آنذاك (1982)، فقط الجهة «الوحيدة» التي أقامت الفاتحة في البحرين - غير عائلته - هي «مسجد بن رضي» بالمنامة، فريق الحطب، وكان أن جاء أحد كبار المسئولين في الدولة آنذاك لحضور الفاتحة، وسأل فدللناه على منزل والد الشهيد، وقبل أن يذهب سألنا عن الفاتحة بالمسجد فأجبته شخصيا بأننا أقمناها للشهيد في المسجد. وبعد مغادرة المسئول الكبير جاءنا بعض أهله للجلوس معنا».
التاء المربوطة!
ذاكرة صاحبنا لم تخنه في ذكر شيء طريف يقع فيه الخطّاطون عادة، وهو أنهم اكتشفوا وجود خطأ في إحدى اللافتات التأبينية التي علّقوها أمام المسجد وفي الممر المؤدي إلى منزل الشهيد الذي لا يبعد أكثر من 400 متر. والخطأ كان في التاء المربوطة، فأنزلوا اللافتة ليصحّحوها إلى تاء مفتوحة! لعل المصادفة وحدها هي التي أرادت أن تميز بهذا الخطأ بين الذوات المفتوحة السمحة الطيبة، وبين النفوس الضيقة المهووسة والمغلقة كالقنافذ الصحراوية!
حقيقة أخرى أذهلتني أن محدّثي المنامي الخمسيني من أبناء الفريق المذكور قال: «هل تتصور أن الشهيد الشتر كان يحفظ سيرة الحسين (ع) في كربلاء على طريقة الخطيب العراقي عبدالزهراء الكعبي؟ وعندما استشهد اجتمع أهل الفريق وأقاموا له الفاتحة، وأهله يذكرون ذلك حتى الآن. بل إن أهله الكرام حتى بعد أن انتقلوا إلى البديع وغيرها، مازالوا يتواصلون معنا ونتواصل معهم، آخرها في فاتحة لأحد افراد العائلة - أطال الله في أعمارهم - يوم السبت الماضي».
إلى هنا انتهت هذه الشهادة الحيّة، لرجلٍ في الخمسين من عمره، من سكان فريق (كانو/ الحطب)، ممن عاصروا تلك الفترة في الوقت الذي كان فيه بعض الصعاليك الضائعين في بيروت، نكرة لا يعرفهم أحد، وكان من المقدّر لهم أن يبقوا نكراتٍ لولا النار الطائفية التي ما فتئوا ينفخون فيها كالحدادين، لا يرقبون في وطنٍ إلاّ ولا ذمة، قد بدت البغضاء في أفواههم، تسوقهم الحمّية، حميّة الجاهلية، فكأنهم يعيشون عصر داحس والغبراء، وكأن هذا البلد مكتوب على جبينه أن يعيش متوتر الأعصاب، يعيش على دمائه بعض هواة اللعب بالبارود، كأنهم لم يسمعوا رسول الامة (ص) يلعن الفتنة ويلعن من يوقظها... لأنها كالنار التي تعصف بالهشيم. فرفقا بالوطن، وحذارِ حذارِ من النار التي لا تُبقي ولا تذر
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 662 - الإثنين 28 يونيو 2004م الموافق 10 جمادى الأولى 1425هـ