قبل أكثر من عقد مضى، وبالتحديد في 17 و18 أكتوبر/ تشرين الأول 1992، وعندما كنت عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، شاركت في تنظيم لقاء نوعي بين مفكرين وناشطين عرب وأكراد. الندوة النوعية ناقشت أفكارا مهمة نعيشها هذه الأيام، وكنت قد غطيت تلك الندوة ونشرتها في نشرة «الضمير» التي كانت تصدرها المنظمة في لندن، كما نشرتها في وسائل إعلامية أخرى آنذاك. ولأن المداولات تهمنا هذه الأيام، فأعيد نشرها بالنص كما صدرت في العام 1992 للاستفادة. وقد نشرت الحلقة الاولى امس، وننشر اليوم الحلقة الثانية.
تحدث المفكر الكردي عمر شيخموس في الندوة قائلا: استخدم تعبير الشرق الأوسط لأول مرة العام 1902 من قبل الغربيين لتسمية منطقة غير محددة تتاخم منطقة الخليج، وتم تثبيته الرسمي باستعماله من قبل الدولة البرياطنية في اواخر الثلاثينات بتسمية «القيادة العسكرية للشرق الأوسط».
وبعد شرح مستوف تطرق قائلا: إن الصرعات القومية والاثنية في اواخر الستينات وخصوصا خلال العقدين الأخيرين اذهلت معظم الباحثين والمراقبين للحوادث واصحاب القرار السياسي نتيجة لفهم خاطئ سابقا بان عمليات الاندماج السياسي والاقتصادي والتنمية الصناعية وبناء الدولة الحديثة ستؤدي تدريجيا إلى زوال او ضعف الهوية والصراعات القومية وظهور هويات إقليمية وكونية لتحل محلها.
وأشار شيخموس في موقع آخر من كلمته إلى أن هناك فهما خاطئا آخر تحكم في عقول المفكرين والحكام في المنطقتين وهو التصور بأن الحركات القومية للشعوب الغالبية تعود إلى جذور تاريخية قديمة مشروعة بدلا من فهمها تطورا برز نتيجة الحركة الاصلاحية الدينية في أوروبا وافكار الثورة الفرنسية ومن ثم تشكيل الدولة القومية، او الدولة الوطنية في معظم ارجاء اقاليم أوروبا المختلفة نتيجة للتطور الرأسمالي فيها وخصوصا الثورة الطباعية التي سهلت تكوين ما يسميها بنركت اندرسون بـ «المجتمع المتخيل»، أي القوم او الامة، ومن ثم تصدير هذه التشكيلة السياسية والاجتماعية وهذا النمط من الفكر السياسي إلى بقية ارجاء العالم عبر التوسع الأوروبي واستعمار مناطق فيه وبروزها تدريجيا في منطقتي الشرق الأوسط والوطن العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ان الصفة المميزة لمعظم هذه الدول المستحدثة في الشرق الأوسط والوطن العربي هي تكوينها المتعدد الاثنية والقوميات وغياب شرعيتها لدى مواطنيها بسبب أرضية تشكيلهم من قبل قوى خارجية وليس نتيجة نمو ذاتي خاص بمجتمعاتهم. ولذلك تصبو قياداتهم السياسية والحاكمة مندفعة بايديولوجية «بناء الدولة» إلى النزوع إلى المركزية المشددة واستعمال اساليب القهر والعنف لتأمين الاندماج والتوحيد الاثني في عملية الالتحام والبناء القومي المنشود.
وبعدها شرح شيخموس الاسباب التي تؤجج النزاعات الاثنو - قومية مثل الشعور بالغبن واستثمار الموارد الطبيعية وثروة مناطق الاقلية لصالح القومية الغالبية، وسد مجال التقدم والوصول إلى مراكز مهمة داخل المجتمع والدولة امام العناصر المتأهلة المنتمية إلى الاقلية، وغياب الديمقراطية والتعددية السياسية، والتعسف من قبل الغالبية، وازدياد الوعي السياسي لدى الاقلية، واهتمام المجتمع الدولي والمنظمات الدولية غير الحكومية بحقوق الإنسان والاقليات وعمليات التغيير السياسي والديمقراطي، واخيرا التطورات والانتفاضات التي حصلت في دول أوروبا الوسطى والشرقية والتي ادت إلى انهيار الأنظمة التوتاليتارية والانتفاضات الأخرى كانتفاضة شعب فلسطين.
عبدالوهاب سنادة (من السودان) تحدث عن مشكلة الاقليات في السودان وخصوصا ما يجري في جنوب السودان، وأشار إلى أن المهم في الأمر ان يحصل الاتحاد بوسائل ديمقراطية وحصول مساواة في المواطنة. والسلطة الحالية طرحت مبدأ الفيدرالية كحل للمشكلة ولكن السؤال المطروح هو هل ان هذا الطرح تعبير عن الادارة السياسية ام فرض لشكل فيدرالي بواسطة دكتاتورية. لقد بدأت المشكلة في السودان بين الشمال والجنوب بين القوميات العربية والافريقية بعد خلق الانجليز ضغائن لدى الافارقة عن العرب عبر اثارة موضوع تجارة العرب بالعبيد.
كما لعب التبشير المسيحي دوره عبر تسمية الشمال المسلم والجنوب المسيحي. ولكن الحكم لم يستطع حل المشكلة حلا سليما، واشعر الجنوبيين بأنهم غير متساوين. وزاد المشكلة ظهور تيارات مثل القومية العربية، ساعدت بشكل غير واع على الانتقاص من غير العرب. كما ساهمت الاصولية الاسلامية سلبيا على التعايش والارادة الموحدة ما خلق اتجاهات انفصالية مع الجنوبيين بعد إعلان قوانين الحدود.
ثم اشار عبدالسلام أحمد (السودان) ان الفيدرالية طرحت في السودان ولكن لم تضمّن في الدستور، وحرب الانفصال استمرت بدعم من قبل الكنائس ومجموعات أوروبية لان الجنوبيين يعاملون معاملة درجة ثانية، وعندما اوقفت الحرب العام 1972 لفترة من الزمان لم يطبق الحكم الذاتي بسبب تسلم الحكم حزب واحد برئاسة جمهورية دكتاتورية. وعندما اعلن جعفر نميري العام 1983 الحدود الاسلامية قامت الحرب الانفصالية من جديد والتي مازالت مستمرة حتى الآن. الفيدرالية طرحت حديثا ولكن الامر بحاجة إلى نظام سياسي مستقر يعتمد العلمانية والديمقراطية والفيدرالية.
محمود الخاني (سورية): انني ارجو ألا تتحول المشكلة بين الحكام والشعوب إلى مشكلة بين الشعوب نفسهم. الاسلام اعطى حق الجعلية، «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» (الحجرات: 13) واعطى الإنسان الحرية «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا» واعطاهم الديمقراطية من خلال مبدأ الشورى وضمن لهم حقوق الإنسان من خلال حق المواطنة تحت ظل النظام السياسي. انا اسأل ما هو البعد الاستراتيجي في الطرح القومي؟ ففي البلد العربي يسام العربي اشد انواع العذاب، ونحن نستشهد بحقوق الإنسان في الثورة الفرنسية وننسى ان الاسلام قبلهم جميعا اعطى هذه الحريات. يجب ألا ننسى ان الدكتاتورية في بلداننا تدعمها الحكومات التي نفتخر بها. ففي السودان عندما يخرج مليون إنسان يطالب بالشريعة الاسلامية لا نستطيع القول ان الاستقرار في السودان لا يتم الا عن طريق نظام علماني.
شبلي الملاط (مفكر مسيحي لبناني): انا سعيد من الطابع المصيري في الحدث. ان الحلول صعبة جدا ففي الوقت الذي يلزم القبول بان حدود العراق مصطنعة فان البديل لهذه الحدود حدود مصطنعة اخرى، ارجو ان تتحول هذه الندوة الى عملية لصوغ المستقبل لمعالجة المتطلبات بصورة موضوعية ولابد لنا من خلق آلية كما كان الامر خلال الثورة الاميركية، من خلال نشر البحوث التي تحظى بغطاء اكاديمي.
محمد الهماوندي (شخصية كردية): لا بد من وجود الاسلاميين الاكراد في مثل هذا اللقاء. اما بالنسبة للمسألة السودانية ففي الواقع ان الاسلام كان بعيدا عندما كانت مشكلة السودان 1955. الطرح الاسلامي في ذاتنا وروحنا على رغم سوء تطبيق الفكر الاسلامي. ان الفيدرالية موضوع قريب من فكرة حكم الولايات في الاسلام كما ان حقوق الإنسان في الاسلام اوسع واشمل من المواثيق الدولية.
هشام الشيشكي (سورية): كردستان، جنوب السودان، البربر، كل هذا يمثل خطرا على الطريقة «الفابية» عندما هاجم هانيبال الاجنحة ثم القلب. ما العلاقة بين جنوب السودان والاكراد؟ العام 1972 ذهبت إلى السودان عندما طرحت الفيدرالية التي لم تنجح والسبب في افشالها كان الغرب. ان مشروع «اسرائيل» الكبرى سيستفيد من دولة للاكراد التي ستصبح تحت الاستعمار الاقتصادي الاسرائيلي عندما تعقد المصالحة العربية - الاسرائيلية ويزور قادة «اسرائيل» البلاد العربية.
ابراهيم احمد (مفكر كردي): ان بلد الاكراد الواقعة في الشرق الاوسط كانت شبه مستقلة ومؤلفة من امارات تزداد استقلاليتها وتقل بالنسبة لوضع الامبراطوريات المتسلطة في المنطقة. وظل الحال على هذا المنوال، حتى منتصف القرن التاسع عشر، بعد سيطرة الدولة العثمانية وقضت على تلك الامارات. ووزغت اجزاء كردستان الى ولايات (بقي جزء طبعا تحت سيطرة الدولة (الإيرانية): وظلت كردستان في ولاية الموصل وهذا أكبر قسم من ناحية المساحة والنفوس في البلاد. اعتقد ان الحساسية الموجودة ناشئة من الخطأ التاريخي الذي يقع فيه بعض الكتاب والمفكرين والسياسيين. ولاية الموصل لم تكن جزءا من العراق الا بعد تشكيل الدولة العراقية.
بدأ الانجليز باحتلال البصرة بعد إعلان الحلفاء الحرب على الدولة العثمانية باعتبارها حليفة للألمان وتقدموا ووصلوا لولاية البصرة وبغداد. وقبل احتلال ولاية الموصل، عقد اتفاق الهدنة بين بريطانيا وتركيا، غير ان جيوش الاحتلال تقدمت واحتلت الموصل وبعض الاجزاء من الولاية. وخلقت مشكلة ولاية الموصل التي يعاني منها إلى الآن الشعب الكردي الملحق بالعراق. عندما احتل الحلفاء اراضي الدولة العثمانية نشروا إعلانات ان الجيش دخل العراق محررا لا مستعمرا.
وأعلنت الحكومتان الفرنسية والبريطانية ان نيتهما ليس السيطرة وانما الانقاذ من الاضطهاد العثماني واعطاء الشعوب حقها في تقرير مصيرها وتشكيل الحكومة التي تريدها. وأعلنت بصورة عامة مبادئ ويلسون الاربعة عشر المتضمنة لحق تقرير المصير والتي تعتبر مبادئ سامية.
انخدعت الشعوب بهذه التصريحات والوعود الإنسانية ومن جملة هذه الشعوب الشعبان العربي والكردي وحصلت اتصالات وعلاقات بين البلدان العربية والقوات المحتلة.
العرب رأوا الوعود نقضت فقاموا بثورتهم (1920) في البصرة وبغداد، ما تسبب بنقل الحاكم العسكري تشكيل حكومة مراقبة والاتيان بالامير فيصل بعد ان طرده الفرنسيون من سورية. وفعلا اصبح ملكا على العراق ووقعت اول معاهدة فيما يتعلق بشروط الانتداب وهي حجة لتأويل قاعدة «حق الفتح». وكان حقا معترفا به قبل الحرب الاولى الذي يقول ان اي بلد يحتل بلدا اخر فمن حقه ان يحكمه. وعندما ارادت بريطانيا تغطية مفهوم حق الفتح استخدمت حق الانتداب ولهذا السبب حكمت بريطانيا العراق باعتبارها الدولة المنتدبة.
عين الشيخ محمود حاكما لكردستان بعد قبوله دخول البريطانين للسليمانية. طلب ادخال كردستان في الدول المحررة واعطاء الاكراد حقهم في تقرير مصيرهم. وكان الشيخ محمود مؤمنا كل الايمان بهذه الوعود. إلا انه فشل واعتقله الانجليز ونفي للهند.
وطالب الاكراد بإعادة الاراضي لانها احتلت بعد الهدنة والبريطانيون يريدونها ضمن العراق. وكان الموصل ضمن حصة فرنسا حسب اتفاق «سايكس - بيكو». ولكن بحنكة البريطانيين تمكن لويد جورج من ان يتبادل بأماكن اخرى مقابل الموصل.
وفي معاهدة لوزان التي عقدت بين بريطانيا والحلفاء وتركيا من جهة اخرى كانت الموصل عقدة الخلاف. اما معاهد سيفر فقد اعطت بعض الحقوق للشعب الكردي الا ان مصطفى كمال اتاتورك قضى على هذه المعاهدة. وكان الاكراد على علاقة جيدة مع السوفيات طوال عهد التشكيل، وعندما اصبحت البلشيفية خطرا على مصالح الحلفاء للحصول على تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية) رأت بريطانيا ان من صالحها ان تتصالح وتتنازل للدولة التركية عن الاكراد بينما تنازل الاتراك عن آسيا الوسطى وبقي الخلاف على الموصل. وقررت عصبة الامم ارسال لجنة الى المنطقة لدراسة المسألة واعطوا قرارا لاسباب سياسية اقتصادية وغيرها بالحاق الموصل العراق. وإلى ذلك الحد كانت كردستان تحت الحكم الانجليزي المباشر.
ألقى المندوب السامي البريطاني كلمة قال فيها: اريد ان انصحكم ان لا تكرروا خطأ الاتراك عندما ارادوا ان يكونوا أوروبيين يلبسون القبعة. وما قاله الملك فيصل اننا لا نكرر هذه الجريمة وان الامة العربية قامت ضد الدولة العثمانية وان العراقي المخلص هو الذي يساعد الكردي ان يكون كرديا حقيقيا مخلصا. قبل ذلك اعلنت الحكومتان العراقية والبريطانية في 24 ديسمبر/ كانون الأول 1922 اعترافهما بحق الاكراد بتشكيل دولتهم المستقلة وطالبتهم بارسال موفد إلى بغداد للتفاوض بشأن العلاقات السياسية والاقتصادية والحدودية.
وجاء في قرار عصبة الامم ان الاكراد اذا لم ينالوا حقوقهم القومية واستقلالهم الذاتي فانهم يفضلون الالتحاق بتركيا على العراق. مع ذلك فإن الدستور العراقي آنذاك لم يتضمن ولا كلمة لحقوق الاكراد او اسمهم. بينما كانت الدولة البريطانية تذكر هذه الحقوق وتبالغ فيها. السبب في هذا الاهمال ان بريطانيا لم تكن قد قررت تشكيل حكومة كردية مستقلة او حتى ادارة مستقلة وانما كانوا يستخدمون الاكراد لتهديد الاتراك عندما كانت مفاوضات لوزان تلاقي مقاومة من الحكومة التركية.
ومن أجل ارضاء الاتراك ترك الانجليز كل حقوق الاكراد. ولكن طوال هذه السيطرة وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان الاكراد يقومون بثورات تحررية استمرت حتى اليوم.
(يتبع...)
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 662 - الإثنين 28 يونيو 2004م الموافق 10 جمادى الأولى 1425هـ