نعود إلى مسألة ظننا أننا تجاوزناها قبل أشهر قليلة مع وزارة الداخلية، وإذا بها تتجدد أيضا في الحادث الذي نشرته الصحف المحلية على صدور صفحاتها الأولى، بإلقاء القبض على ستة مواطنين للاشتباه بتخطيطهم لأمور خطيرة على الأرواح والممتلكات، وكذلك الانتماء إلى تنظيم القاعدة. ويكفي اليوم ذكر اسم القاعدة، حتى يثير رعب أناس، وحنق أناس، وهذرمة أناس آخرين، وهي التي فرخت سكاكين الذبح التي تشمئز منها النفوس السليمة، ولا تقبلها فطرة المقاومة والجهاد الحقيقيتين، وذلك بقول القتل لمن هو غير مسلم، فقط لأنه غير مسلم.
ولن ندخل هاهنا في مناقشة هذا الفكر، أو التعريض بأصحابه، فهم معروفون والقول فيه لا يعدو تكرارا لما سبق قوله من أناس كثيرين، ولكن ما لن يُمَلّ من قوله، هو أهمية تعاطي وزارة الداخلية بشيء من الحنكة مع هذه الأمور، إذ هي تقوم - من ضمن واجباتها - بحماية الناس والممتلكات العامة والخاصة، والحفاظ على الأمن والنظام العام.
وكنا اعتقدنا سلفا أن درس أحد الناشطين السياسيين - الذي تم التعريض باسمه قصدا في قضية آداب، ونشرها وتعميمها في الصحف وكأنها القضية الأولى من نوعها، أو الدخيلة على الحياة العامة، وما نتج عن هذا التعريض من قيام مجموعة من الأقلام بشجب هذا الأمر، وتكرار القاعدة القانونية بأن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته» - أعاد الوزارة إلى التفكير في هذا الأمر بجدية، واتخاذ موقف من نشر الأسماء والصور، وترك الأمر للقضاء للفصل فيما إذا كان هذا الشخص بريئا أم لا.
الناشط السياسي هذا، خرج من تجربته حانقا صابّا جام غضبه على وزارة الداخلية والصحافة، لم يستثن منها أحدا، واقفا في إحدى الندوات ليلقي ظلامته وأنه تم تشويه سمعته أمام الرأي العام بقصد إنهائه سياسيا، ولم يكن بالإمكان لوم الرجل، أو تذكيره بمن وقفوا إلى جانبه من الصحافيين، وكم المقالات التي كتبت بقصد الدفاع ليس عنه شخصيا، بل عن مبدأ عدم التشهير بالمتهم حتى يصدق القول الشعبي «دارٍ درى... ودارٍ ما درى» عندما يخرج بريئا، وإن كان مذنبا، حُقّ عليه العقاب.
وكان دليل الكثير منا على هذا التوجه الجديد والمحمود أيضا لوزارة الداخلية، أن عددا من الأخبار التي نشرتها الوزارة فيما بعد، أتت برموز الأسماء (الأحرف الأولى منها) من دون ذكر الاسم كاملا، إذ إن القارئ لن يهتم بالاسم الكامل، بل سيهتم بالوقائع، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن المجتمع البحريني الصغير، الذي يستغرب الخليجيون من معرفة الناس فيه بعضهم بعضا بسهولة بالغة، يضر بأفراده أن يقال إن أحدهم مجرد «متهم» يوما ما في أي نوع من القضايا، حتى وإن برّأ القضاء ساحته، إذ ستظل التهمة تحوم فوق رأسه وتخدش سمعته إلى أمد بعيد، ربما يمتد إلى أولاده.
في «الوسط» تدارسنا الموضوع منذ مدة طويلة، وجربنا كل الوسائل، وذلك بدءا من نشر صور المقبوض عليهم في حوادث سرقة، ووقفنا بين رأيين، رأي يقول بعدم النشر حفاظا على الحقوق المدنية لهؤلاء الأشخاص، ورأي يقول إن لم ننشر سينشر غيرنا، وبالتالي، فإن القارئ المتطلع لما هو مثير (وليست كل الإثارات تؤخذ بالمعنى السلبي للكلمة) سيقصد صحفا أخرى ليرى ويقرأ، وبالتالي لن يلتفت إلى هذه الجزئية على وجاهتها... وانتصر الرأي الثاني.
وكذلك انتصر هذا الرأي في مواقف أخرى من مثل شارع المعارض ليلة رأس السنة وغيرها، وفي كل مرة يتجدد النقاش الداخلي: «ننشر أم لا ننشر؟». حتى كان خبر إلقاء القبض على من أسموا «عناصر الخلية»، وهي المرة الأخيرة التي نشرت فيها صور المشتبه بهم... من بعدها غلب الرأي الآخذ بحق المتهمين بعدم التشهير بهم، ولو كان الأمر على حساب المنافسة.
يوم الثلثاء الماضي، تعود وزارة الداخلية لإرسال خبر مفاده إلقاء القبض على ستة مشتبه بـ «تخطيطهم للقيام بأعمال تستهدف الإضرار بالأمن العام»، ولا تتردد في نشر الأسماء الثلاثية والرباعية للمتهمين الستة، ويأتي يوم الأربعاء، وإذا يتم إخلاء سبيل المتهمين جميعا بضمان محلات إقامتهم ولم توجه إليهم أية تهمة!
وإن لم توجه إليهم أية تهمة في القضاء، فإن المجتمع الذي عرف أسماءهم، أصدر الحكم عليهم بأنهم أناس خطرون، وإن الابتعاد عنهم غنيمة، والفرار من أمامهم أجدى لكي لا تحوم الشكوك حول من يسلم عليهم أو يبتسم في وجه أحدهم، أو يوقف سيارته بالمصادفة قرب سيارة أحدهم.
أحد المتهمين في قضية «الخلية» زار «الوسط» بعد الإفراج عنه في شهر مارس/ آذار الماضي ليشكرها على وقوفها إلى جانبه في تلك القضية، وتحملها نشر خبر الإفراج عنه وعن بقية المتهمين الآخرين الأمر الذي قادها إلى المحاكم، وقال إنه على رغم الإفراج عنه، فإن سيارات متتالية للمباحث تلاحقه أينما ذهب، وتحوم حول بيته ليل نهار، وضحك قائلا: «سيارات لمدة أربع وعشرين ساعة تلاحقني، في كل سيارة ما لا يقل عن اثنين... لا أعرف كم كلفتُ الدولة حتى الآن»... أما الآخر، فإن محاميه نقل عنه الأذى الذي أصابه من تلك القضية، بنشر اسمه وصورته حتى غدا مفردا «كأفراد البعير الأجرب» الذي يخشى الناس الاقتراب منه أو توظيفه، وضاقت به السبل لا يدري كيف يطعم أطفاله.
إن الجهر بأسماء المشتبه بهم قبل أن تنظر المحاكم في أمرهم، بل وقبل أن تفصل في قضاياهم، يعد من قبيل إطلاق الأحكام المسبقة عليهم، وحرمانهم من حقهم في الاستقرار الاجتماعي، كما يفعل أحد المحامين العرب من الرعيل الأول الذي يصر حتى في مناقشاته اليومية العادية - بحكم المهنة - أن يورد الأسماء الثلاثية للشخصيات السياسية التاريخية التي يتهمها بالعمالة والخيانة، مبررا ذلك بقوله: «حتى لا يختلطوا بالاشراف»، ولذلك فإن مجرد الاتهام لدينا يحرم المتهم من الاختلاط بـ «الأشراف» على هذا القياس، مادام افتضح على رؤوس الأشهاد.
إن الأمل لايزال قائما في قيادات وزارة الداخلية لكي تتدارس الأمر، وتضع مصلحة الإنسان الذي تعنى بأمنه في مقدمة الاهتمامات، فكما أن السجون يجب ألا تخرّج الناقمين والمنتقمين من المجتمع، بل العاملين المنتجين فيه، فإن من شأن البيانات ألا تسمي المتهمين بأسمائهم، لأن من يقرأ خبر الاتهام لا تتهيأ له قراءة خبر التبرئة، وسيظل الانطباع الأول هو الانطباع الأخير، ويظل الإنسان لدينا مخدوش السمعة حتى لو كان مفترى عليه، أو أخذ بالظنة.
إننا - ككل المجتمعات - نحتاج دوما إلى التقليل من تلك الثنائيات والتشطيرات التي لدينا منها ما يكفي ويزيد، من قبلية وعرقية وطائفية ومناطقية ولونية، ولن نحتاج إلى إضافة ثنائية جديدة إلى ما سبق بتقسيم الناس إلى مشبوهين وأشراف، بمساهمة الدوائر الرسمية، وترويج الصحافة المحلية، سواء كانت غافلة أم قاصدة هذا الأمر، لأن هذا من شأنه أن يجعل حتى المشتبه فيه الذي ثبتت براءته، يكفر بهذا المجتمع الذي لم يبرئه، والذي ضيّق عليه رؤيته لئلا يبتلع لقمة حلال يكسبها من كده مادام لا يستطيع العمل في أرضه.
يروى أن الخليفة المأمون كان يطوف مع جمع من أصحابه عند أطراف مملكته محاذيا حدود الروم، وأخذهم الحديث في السياسة، فقال المأمون: «جوّع كلبك يتبعك...»، فدمدم أحد الحاضرين مشيرا إلى ما وراء الحدود: «ماذا لو هزّ له عدوك بالعظم؟!»
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 660 - السبت 26 يونيو 2004م الموافق 08 جمادى الأولى 1425هـ