في الوقت الذي تتجه فيه العلاقات بين حلف شمال الاطلسي والجزائر نحو مزيد من التقارب والتوثيق الذي سيتوج بمشاركة هذه الأخيرة بقمة رؤساء الدول والحكومات التي ستجمع «الناتو» إلى جانب الدول الشريكة في اسطنبول يومي 28 و29 يونيو/ حزيران الجاري، يتابع العرب عن كثب وبدقة، الاجراءات المتعلقة بإتمام الصفقة الكبرى التي سيتم بموجبها بيع روسيا للجزائر 50 طائرة ميغ - 29 معدلة بقيمة 1,5 بليون دولار.
اذا كانت واشنطن تغمض عينا على عملية «سباق التسلح» الذي تسعى إليه المؤسسة العسكرية الجزائرية منذ العام 1997 فإن دول الاتحاد الأوروبي، وبصورة خاصة فرنسا، تبدي يقظة ملفتة خوفا من اختلال موازين القوى في منطقة شمال افريقيا التي لا تزال تعتبرها جزءا من امنها القومي. ويأتي تسريع الصفقة مع موسكو في الوقت الذي تطرح فيه الدوائر الغربية، بما فيها الاميركية أسئلة واشكاليات بشأن دور المؤسسة العسكرية الجزائرية في صنع القرار وتحديدا بعد الانتخابات الرئاسية الاخيرة التي اعلنت فيها «التزام الحياد والانسحاب من الحياة السياسية والتحول إلى المسار الاحترافي».
وتفيد مراجع فرنسية مختصة بأن عودة الجزائر للتركيز على مصادر الحليف «السوفياتي» السابق العسكرية جاءت بعد تمنع الأوروبيين وحتى الاميركيين من مساعدتها على تنويع شركاتها العسكرية. ذلك ايضا، على رغم تخرج مجموعات تطلق عليها تسمية «الجيل الثالث» داخل السلطة الفعلية في الجزائر من المدارس العسكرية الأوروبية والاميركية. ما يعني أن قرارات حلف شمال الاطلسي بتكثيف دورات تأهيل الضباط الجزائريين في معاهد مثل «أوبراميغو» بألمانيا، وأخرى في ايطاليا مثل المدرسة العسكرية للناتو بروما أو معهد «بلتيمور»، لم تصل بعد إلى حد رفع الحظر الغربي على بيع الاسلحة للجزائر.
في هذا السياق، تشير مصادر جزائرية مقربة من المؤسسة العسكرية إلى أن التقارب السياسي والامني، وخصوصا على صعيد مكافحة الارهاب بين كل من واشنطن والجزائر، لايزال بعيدا عن مفهوم الشراكة بمضامينها الفعلية المختلفة، على غرار العلاقة الاستراتيجية القائمة بين المغرب والولايات المتحدة. هذه الاخيرة - التي عشية مشاركة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة بدعوة من نظيره جورج بوش في قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى التي عقدت في مطلع الشهر الجاري في سي ايلاند بولاية جورجيا - تعمدت الاعلان أن المملكة المغربية تعتبر حليفا يتمتع بوضعية امتيازية، كما سربت معلومات عن استقبالها لاكثر من 40 طيارا للتدرب في قواعدها على طائرات من طراز إف - 16 المعدلة التي ستسلم قريبا للرباط.
نحو «هند متوسطية»
تظهر كتابات المحللين العسكريين الغربيين مقاربة بين الجزائر والهند. ويعتبر هؤلا أن الاستعمار الطويل الأمد الفرنسي للأولى والبريطاني للثانية، قد تركا آثارا في العمق تحديدا على صعيد اللغة والثقافة. ومن ثم، توجه الاثنان نحو الاتحاد السوفياتي للتسلح.
واذا كانت الهند قد اصبحت نقطة جذب لكبار الشركات المصنعة للأسلحة فإن الجزائر قد بدأت منذ فترة تحظى باهتمام من قبل هؤلاء. اضافة إلى هذين العاملين، فإن البلدين قد خصصا موازنات لا يستهان بحجمها للتسلح. وتحضر الولايات المتحدة اليوم بقوة في الهند، في حين بدأت بدراسة الوضع في الجزائر، تماما كما تفعل بريطانيا، فكلا الدولتين تعملان في هذه المرحلة على تعزيز مواقع مجموعات الضغط المؤيدة لهما، الحاضرة على وجه الخصوص في قطاع الهيدروكربورات ورئاسة الجمهورية والجيش والقطاع الخاص، الذي يكون الحرص على تقويته عبر مختلف المناسبات والتظاهرت الاقتصادية والمؤتمرات والحلقات الدراسية التي يشارك فيها الاميركيون بكثافة. وفي المقاربات نفسها يرى المحللون العسكريون عينهم أن الوتيرة التي ترافق توقيع الصفقات مع كل من البلدين بطيئة، تواكبها عادة جولات من المفاوضات الصعبة التي غالبا ما يكتنفها تردد ومراجعات نظرا إلى فعالية ونفوذ مراكز القوى من جهة، ونظرا إلى التبدل المتسارع، للتوازنات الداخلية، من جهة أخرى. لكن الاهم في هذه المقاربات هو أن كل الاحتياجات العسكرية لكل من الجزائر والهند متشابهة عمليا إلى حد كبير. ويتعلق الامر على سبيل المثال، بالانظمة الدفاعية وطائرات التجسس الالكترونية من نوع «باثمار» والغطاء الجوي، ومراكز العمليات وانظمة الحماية الذاتية الخاصة بمروحيات مراقبة الحدود.
واذا كانت اللغة الانجليزية المستخدمة في المفاوضات وتوقيع الصفقات والتأهيل، لا تشكل مشكلة بالنسبة إلى الهنود، فإنها على العكس من ذلك، تبقى عقبة بالنسبة إلى الجزائريين، كون الاقلية منهم تتقنها. وتعتبر هذه الناحية بمثابة نقطة ضعف رئيسية يمكن ملاحظتها بسهولة. هذا ما استنتجه الاميركيون خلال عمليات التنسيق الامني بعد الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول، ويشار إلى ان البنية العسكرية الجزائرية لاتزال مركبة على قاعدة تنظيمية سوفياتية الطابع، المنغلقة كليا، إذ لا يتخذ اي قرار بصورة مباشرة، بل يجب ان يمر حكما بمركزية القرار. لكن ما يجب التشديد عليه، بحسب المعلومات التي يتداولها المحللون العسكريون الغربيون، هو ان مؤهلات الضباط الجزائريين تصل إلى مستويات رفيعة، ناهيك عن ان الجيش يتمتع هو الآخر بدرجة رفيعة من الخبرة. فمعرفته في مجال الكترونيات الدفاع ممتازة. ويمكن القول إن الجيش الجزائري حساس للغاية من ناحية قدرته على التمكن من تحليل المعلومات التقنية العملاتية.
وتتقاطع المعلومات بشأن قيام القوات الجوية الجزائرية، منذ مطلع عقد التسعينات، بإدخال تحديث جدي على المستوى التنظيمي وكذلك التأهيلي. كذلك على صعيد تدريب الطيارين والفرق العاملة في المطارات. وفي العام 1997، اشترت الجزائر طائرات استكشاف من طراز «سيكر» من جنوب افريقيا، ذلك على رغم القرار المتخذ من قبل برلمان بريتوريا بعدم بيع اسلحة، حتى الدفاعية منها، إلى الدول التي لديها نزاعات معينة مع أخرى، في اشارة إلى مشكلة الصحراء الغربية. وبشكل مواز، حصلت القوات المعنية على ثلاث طائرات ميغ - 2525 للتشويش والتنصت من أوكرانيا. في الوقت نفسه، سربت مصادر فرنسية معلومات مفادها ان الجزائر تبدي اهتماما بالغا بشراء مروحيات جنوب افريقية من طراز «روي فالك». وفي العام 2000، وصفت الجزائر طلبية لشراء 22 قاذفة من طراز سوخي سي يو 24 لكن الصفقة الاهم التي ابرمتها مع موسكو تتعلق بقاذفات سوخوي 27 و30 التي يتدرب عليها حاليا اكثر من مئة طيار، وتؤكد اوساط جزائرية محيطة بقيادة الجيش أن التقارب الاخير مع حلف الناتو دليل على تعاظم القوة العسكرية لهذا البلد، والتي جعلته يلعب دورا محوريا في المنطقة من الصعب تجاهله. مع ذلك تجزم الدوائر المشرفة على الملف الشمال الافريقي في رئاسة الجمهورية الفرنسية، بأن واشنطن لن تسمح مطلقا للجزائر بأن تصبح «قوة إقليمية رائدة» - كما يحلم قادتها - في منطقة المغرب العربي، ما يؤثر على استراتيجيتها ويخل بتحالفاتها. فاميركا تريد منها ان تكون مجرد حليف اضافي ذي وزن يخدم مصالحها الجغراستيراتيجية، ويعلق في أن معا الوجود الاوروبي. لذلك فإن السباق على التسلح من قبل الجزائر يقف عند حدود اسداء خدمات للناتو في منطقة حوض البحر الابيض المتوسط. لهذا فمن المستحيل ان يسمح لها والحال هذه بتجاوز الحدود المرسومة لدورها، بمعنى أن الجزائر لن تتمكن تحت اي ظرف من تهديد جيرانها وخصوصا المغرب. ذلك لأن الصراع العسكري على الصحراء الغربية ممنوع، ما لا ينفيه جنرالات الجيش الجزائري في الكثير من لقاءاتهم مع نظرائهم الفرنسيين والاسبان والروس.
اذا كانت روسيا تعتبر اليوم بمثابة المورد الرئيسي للجزائر من الاسلحة، فإن دولة جنوب افريقيا تأتي في المرتبة الثانية، ولو بعيدا نسبيا، مع ذلك تستمر حكومة بريتوريا في إنكارها تقديم التجهيزات العسكرية للجزائر. ذلك، على رغم التقارير السرية التي تتبادلها السلطات الغربية المختصة والتي تؤكد ذلك، ففي الواقع ومنذ العام 1997 وجمهورية جنوب افريقيا تعمل على تحديث وتجهيز القوات الجوية الجزائرية. هذا التعاون الذي من المتوقع أن يتطور في المرحلة المقبلة، وتحديدا بعد قيام برلمان بريتوريا برفع الحظر المفروض منذ منتصف التسعينات على بيع الاسلحة للدول الداخلة في نزاعات؛ ما ينطبق عمليا على الجزائر بسبب مشكلة الصحراء الغربية.
على أية حال يشار إلى أن العلاقات بين «جبهة المؤتمر الوطني الافريقي» التي اصبحت فيما بعد الحزب الذي تسلم السلطة برئاسة نلسون مانديلا بعد انهيار حكم التمييز العنصري، لم تتوقف عن التطور. في هذا الاطار، منذ الزيارة التي قام بها الرئيس الحالي لدولة جنوب افريقيا، ثابومبيكي للجزائر في اكتوبر/ تشرين الأول العام 2002 وتبعتها زيارة رئيس اركان الجيش الفريق محمد العماري لبريتوريا، والعلاقات الثنائية على المستويين الاقتصادي والعسكري تشهد تقدما ملحوظا.
الدليل على ذلك أنه في شهر مايو/ أيار الماضي، اعلن سفير جنوب افريقيا في الجزائر، راتوباشي سوبر مولوا أن حكومة بلاده تدرس في هذه الفترة طلبية كانت الجزائر تقدمت بها لشراء اسلحة. لكنه لم يعط اية تفاصيل تتعلق بنوعيتها أو الكميات المطلوبة. مع ذلك اشارت المعلومات المتقاطعة في عاصمتي البلدين إلى أنه عدا نظـام الملاحة المخصص لتحديث الطائرات الذي اشترته الجزائر حديثا من روسيا، فإن القوات الجوية الجزائرية تبدي اهتماما زائدا بالمروحيات الجنوب افريقية من طراز «رويفالك» ولا يتردد المحللون العسكريون في ربط هذه «الشهية» لتعزيز القدرات العسكرية الجزائرية بالزيادة الملموسة في الاحتياطات من العملات الاجنبية التي وصلت، نتيجة ثبات ارتفاع اسعار الهيدروكربورات إلى نحو 40 بليون دولار في مطلع شهر يونيو/ حزيران 2004، ما يشجع الكثير من البلدان المنتجة للأسلحة على تجاوز الخطوط الحمر.
من ناحية أخرى، وبحسب مصادر فرنسية فإن شريكي الجزائر (روسيا وأوكرانيا) قد لفتتا النظر حديثا إلى المحاولات التي تبذلها بعض شركات تصنيع الاسلحة الاسرائيلية للاختراق غير المباشر للسوق الجزائرية عبر اصناف من المركبات الالكترونية التي تزود بها التجهيزات الجنوب افريقية منذ سنوات، ويمكن لشركة «إم. ار. سي. إم» المرتبطة بمصالح مشتركة مع الفرنسيين «أو ايه دي إس» وشركة «غرينتويك ايواشين» الاميركية أن تلعب دور «حصان طروادة» في هذا المجال. فالشركة المذكورة تنتج وتسوق الانظمة الدفاعية المصنعة في جنوب افريقيا، لكن موسكو قدمت الاثباتات بأن مركبات هذه الانظمة التي ينتجها مصنع «هيرلي إنك» الاميركي تتضمن قطعا اسرائيلية.
لكن على رغم كل هذه المعطيات، واصرار الجيش الجزائري على تحديث جميع وحداته العسكرية، فإن الدول الرئيسة، ما عدا روسيا وبنسبة أقل جنوب افريقيا المنتجة والبائعة، لاتزال تتمنع عن بيع الاسلحة الهجومية للجزائر، مكتفية ببعض مركبات الانظمة الدفاعية المحدودة القدرات التكنولوجية. وينطبق الوضع على كل من اميركا وبريطانيا وفرنسا، التي على رغم حاجة مصانعها الملحة إلى تصدير السلاح، فإنها ترفض الضغوطات التي تمارسها عليها اللوبيات المحلية حتى الساعة
العدد 660 - السبت 26 يونيو 2004م الموافق 08 جمادى الأولى 1425هـ