التقى في مجمع البحرين أكثر من خمسة وثلاثين فنانا وفنانة، أصغرهم لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، بينما شارف أكبرهم على الخامسة والخمسين، ليشكلوا لوحة جميلة كبرى تغني للأوطان السليبة وللحرية وسجنائها عبر العالم.
ففي الفترة ما بين 23 و25 يونيو/ حزيران الجاري، نظمت «الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان» و«جمعية المرسم الحسيني للفنون الإسلامية» مرسما حرا تحت شعار «معا ضد التعذيب» لإحياء يوم التضامن مع السجناء وضحايا التعذيب، وذلك بمجمع البحرين.
أول ما تدخل المرسم في الطابق العلوي من المجمع، ستستقبلك بعض الرسوم الكاريكاتيرية للفنان علي البزّاز، كلها تدور حول معاناة السجناء: مفكر مكبل بالقيود، سجين موصل به قنبلة ثقيلة، سجين ثالث مقطع الرجلين واليدين، رابع معلق بالمشنقة وأمامه الجلاد الذي مازال يطالبه بالاعتراف بجريمته! عسكري يخطب مبتدئا باسم الديمقراطية... على أن أبلغها لوحة وصل بها الفنان إلى قمة السخرية اللاذعة، عندما صوّر الجلاد وهو يحقق مع هيكل عظمي مقيد بالسلاسل والقيود، ويطالبه بالاعتراف!
سألت الفنان البزاز: لماذا لوحاتك أقوى تعبيرا من الرسوم التي تنشرها لك الصحافة المحلية؟ فأجاب: «لأن الموضوع الذي نتناوله هنا مؤثر في النفوس، ومن عايش التجربة يشعر بالمرارة التي سيظل يذكرها الإنسان لانك تتعامل مع إنسان يعذَّب، وإهانة إنسان في السجن من أقسى الاهانات التي يمكن ان يتعرض لها الإنسان في الحياة». سألته: هل تعرضت لمثل هذه التجربة؟ أجاب: لا.
عدت أساله: وهل سجن أحد من أهلك؟ أجاب: «لا، ولكن القضية قضية مشاعر إنسانية عامة».
إلى جانبه كان هناك مجسم لريش الحمام بين القضبان، أعد بطريقة فنية جميلة، وإن كان الموضوع يثير في النفس الحزن وهو يتأمل رمز السلام الأبيض سجينا.
حصة أحمد المفتاح، من جدحفص، تشارك للمرة الثانية بعد مهرجان الاسكافي الذي شجعها على المشاركة والابداع، الرسم بالنسبة إليها «هواية من خلالها تخرج الابداعات والمواهب» كما تقول. وتضيف: «كنت أرسم حتى في المنزل، واميل لرسم الاشياء القديمة مثل المزارعين والأبواب القديمة». شاركت بلوحتين، الاولى امرأة متشحة بالسواد، ترمز بها إلى الأمة العربية والإسلامية التي تريد ان تحمي دينها وعقيدتها، يلتف بها العلم الأميركي الاسرائيلي ليحرمها من حريتها، بينما صدرها ينزف بالدم. اللوحة الثانية خريطة العراق الحمراء الدامية، حوّلتها الفنانة المفتاح إلى سجن يضم العراقي بينما الجندي الأميركي يوجّه فوهة بندقيته إليه من وراء القضبان».
ياسمين كروف، مدرّسة لغة عربية، تمارس الفن هواية، وترسم أربع لوحات في الشهر، تتبرع بمعظمها إلى المدرسة التي تدرّس فيها، شاركت في معارض وزارة الاعلام والجامعة ومجلس التعاون، وتفكر حاليا في تنظيم معرض خاص. تقول: «عندما سمعت عن فكرة هذا المعرض لم أتردد لحظة واحدة، أحس أن شيئا داخلي يدفعني للمشاركة، للتعبير عن الوقوف مع ضحايا التعذيب، فتركت طفلي في المنزل وجئت للمشاركة». لوحتها عن سجن أبوغريب، قسمتها إلى ثلاثة أقسام: الأحمر يرمز إلى السجناء المعذبين، الأسود يرمز إلى الظلم، والأصفر يرمز إلى الأمل بالفرج، مع ظهور يدٍ دامية لرفض الظلم. سألتها: «هل تعرّض أحدٌ من أهلك إلى الاعتقال؟ فضحكت وقالت: «نعم، بعض أخواني».
الجامعية أسماء ابراهيم، سنة أولى فنون، شاركت في مهرجان الاسكافي وتشارك هنا بلوحتين: امرأة ترتدي وشاحا أبيض دليل البراءة، تريد عبور منطقة شائكة لتصل إلى الأرض الخضراء حيث السماء والحرية. اللوحة الثانية جمجمة الإنسان الضحية، وما لاقاه من تعذيب، ومن الجمجمة تطلّ عين تنظر إلى السلسلة المعلقة. حاولت الفنانة التي ترسم الكاريكاتير أيضا، أن تكون اللوحة حارة من خلال دمج الألوان.
الفنان المعروف محمد بحرين، من «المدرسة الوحشية التعبيرية»، التي برزت بعد الحرب العالمية الثانية من أوروبا الخارجة من أتون الحرب، يقول: «أشعر أنني من أبناء هذه المدرسة، فهي قريبة إلى روحي». كانت له ملاحظات على ضعف التغطية الإعلامية، وبعض الزوار اكتشفوا المعرض بالصدفة عند زيارتهم للمجمع. ومع ذلك فإن التفاعل كان كبيرا، سواء من جانب الجاليات الآسيوية او الأوروبيين - كما يقول الفنان بحرين - «فالمعرض يلتقي مع إعلاء كرامة الإنسان واحترام إنسانيته، بل إن الاجانب اعتبروه دليلا على وعي الشعب البحريني والانفتاح الذي تعيشه البلد».
الفنان علي جلال، سنة ثالثة فنون، رسّام وخطاط، وقف أمام مجسمٍ لجسد بشري مشوه مبقور البطن، قطعت منه أطرافه ورأسه، وحفظها الجلادون في أحد الأقبية، وفي أعلى المجسم حمامة أسيرة هي الأخرى، وفي الأسفل شجرة الحرية تنمو في الأرض، بينما تنتظرها المشنقة في أعلى اللوحة.
على أن من أبدع اللوحات لوحة الفنان ابراهيم أكبر، الذي اتخذ من صورة السجين العراقي في أبوغريب، التي أصبحت أيقونة تدل على العصر الأميركي الجديد، مادة للوحته، ولكنه هذه المرة يتغطى بالعلم العراقي.
الفنان القادم من جمهورية ليتوانيا، احدى جمهوريات البلطيق التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي السابق، فيجيس دوترتاس، والذي يعيش في البحرين منذ ثماني سنوات، رسم طاولة تمثّل الامم المتحدة، وحولها اعضاء مجلس الأمن معصوبو الأعين، يتلمسون الطاولة بأيديهم، إذ تقبع جثة ممددة ترمز إلى فلسطين. بدأ حديثه مداعبا «لم أتدخل هنا في الشئون الداخلية للبحرين»، ثم غلبت صوته نبرة الجد فقال: «هنا نتكلم عن انتهاكات حقوق الإنسان عموما، فتعذيب شعبٍ بكامله هو الأسوأ، لأن جميع افراده يتعذبون في هذه الحال. اليهود في الحرب العاليمة الثانية تعرضوا للتعذيب على يد النازيين، واليوم يعذبون الفلسطينيين يقف العالم والأمم المتحدة دون ان تفعل شيئا، على الأقل تحقيق السلام».
مدير المرسم الحسيني عبد النبي الحمر الذي كان يرافقنا يقول: «بعض الفنانين والفنانات تعرض أقرباؤهم لتجربة الاعتقال، والبعض الآخر يتعاطفون مع ضحايا التعذيب السابق والحاضر وفي المستقبل، لأن التعذيب أمرٌ بغيض، ترفضه كل الأديان والملل والمذاهب والقوانين، فلماذا يلجأ الحاكم إلى التعذيب؟ ألا يدل ذلك على ضعفه؟ فأميركا استخدمت أساليب التعذيب نفسها التي مارسها صدام ضد العراقيين كإرهاب منظم. وعندما نظمنا هذا المرسم فلكي نوصل رسالة بهذا الخصوص، حتى أن بعض الخليجيين أبدوا إعجابهم، ولم يصدقوا أن المرسم الحسيني يخرج عن إطار التعزية».
عند الساعة التاسعة من يوم الجمعة، قامت لجنة التحكيم المكونة من خمسة محكمين، بحرينيين وثلاثة فنانين من جمعية الفنون التابعة للجالية الفلبينية الغنية بالكفاءات الفنية، باختيار اللوحات الفائزة.
طغى على اللوحات اللون الأحمر والبني الداكن لدلالتهما على عالم التعذيب وانتهاك حرية الإنسان في سجون العالم، تلاهما الأصفر والأخضر الرامزان إلى الحرية والنماء والامل.
جاءت بعض اللوحات لتقدم رسالتها مباشرة، مثل لقطات فوتوغرافية، لا تريد أن تخفي شيئا وراء الصورة: أقبية السجون، خريطة العراق المعلقة في المقصب الأميركي، حذاء جندي أميركي يطأ رأس سجين عراقي... بينما جاء بعضها الآخر بطريقة غير مباشرة، لتشجع القارئ على التأمل لقراءة ما يريد الفنان البوح به للآخرين.
في أحد الأيام الثلاثة للمعرض، جرى حوارٌ ساخن بين خليجي وأميركي، الخليجي كان محتجا على المعرض الذي كثرت فيه اللوحات التي تدين الولايات المتحدة الأميركية، «لان العرب هم أساس البلاء وهم الذين يعذبون شعوبهم، ولا ينبغي الحديث عن اميركا»، فتصدى له زائر أميركي بقوله: دع الفنانين يعبرون عن أفكارهم، وعلينا أن نستمع إلى ما يقولون
العدد 660 - السبت 26 يونيو 2004م الموافق 08 جمادى الأولى 1425هـ