العدد 658 - الخميس 24 يونيو 2004م الموافق 06 جمادى الأولى 1425هـ

آثار وتاريخ وثقافة... الحفاظ عليها مهمة ليست سهلة

يوبيل ذهبي تحتفل به «دلمون» الحضارة ... ويحتفل بها

كيف نحافظ على الآثار والتاريخ؟ ان المختصين بمختلف وجهات نظرهم وعلى رغم اتفاقهم على حال الإهمال التي تعاني منها الآثار في البحرين، يتفقون على ان المهمة ليست سهلة. لكن كيف يمكن التوفيق بين ضرورة المحافظة على هذه الآثار وبين المهمة الصعبة في تطويرها؟ ان تحويل الآثار الى قيمة حضارية وتاريخية للبلد او حتى مصدر إنعاش للسياحة الثقافية والتاريخية، يتطلب بالضرورة بذل جهود كبيرة ومتواصلة وتخصيص موازنات كبيرة أيضا لهذا الغرض. المهمة ليست سهلة حقا، لكن كيف يمكن إنقاذ تاريخ بأكمله وتحويله من كم مهمل وأطلال إلى عنصر ديناميكي في الاقتصاد الوطني والثقافة أيضا.

يتفق الباحث التاريخي المتخصص في الحضارة الدلمونية علي اكبر بوشهري مع ما ذهب إليه عيسى امين بشأن الاهمال الذي تعاني منه المواقع الاثرية في البحرين، لكنه يرى اسبابا اخرى لهذا الاهمال.

يقول بوشهري إن تحويل المواقع الأثرية المختلفة في البحرين إلى مواقع جذب سياحي امر مكلف من ناحية الجهد والمال.

ويوضح: «نحن بلد محدود الامكانات ويجب ان نتطلع إلى الاولويات. بحسب رأيي الشخصي اجد ان «قلعة البحرين» تحتل اهم الاولويات. وبلا شك ان الوزارة تحاول بشكل جدي تطوير هذا الموقع المهم وقد انفقت مبالغ طائلة من اجل تملك الاراضي الواقعة عليها القلعة لذلك عندما نتحدث عن جميع المواقع وتطويرها فاننا نتحدث عن مبالغ خيالية اذا اردنا تحويل هذه المواقع الى ما نتمناه».

ويضيف بوشهري: «عندما نتحدث عن امنيات يبدو الواقع مختلفا ويجب ان نكون واقعيين. فلو اخذنا مثالا موقع مستوطنة سار وهو اكبر من موقع قلعة البحرين لكن اعمال التنقيب لم تنتهِ فيه بعد. فهذا الموقع يحتوي على عشرات البيوت والاسواق والمعبد ويحتاج هذا الموقع إلى الكثير من اعمال الصيانة لحمايته بل قد يحتاج إلى تسقيفة وهذا يترتب عليه مبالغ وجهود كبيرة كي تتم عملية الصيانة بالشكل المطلوب».

وفي سؤال بشأن نقص الكوادر المتخصصة في اعمال التنقيب يقول بوشهري: «لدينا منقبون بحرينيون يملكون خبرات كبيرة. والبحرين بدورها تعتبر من اولى الدول التي عملت في مجال التنقيب في المنطقة، فمنذ الستينات وهناك بحرينيون يقومون بأعمال التنقيب، بلا شك ليست لدينا أعداد كبيرة».

يرى بوشهري ان عمليات التنقيب تأتي على شكل عمليات انقاذ اكثر من كونها لغرض علمي ومعظمها يجري في أملاك خاصة إذ تتولى الوزارة ارسال المنقبين وبعدها يتم تسليم الأرض لأصحابها.

وعزا بوشهري التأخير في عملية التنقيب عن الآثار إلى التغيرات الادارية التي تحدث بين الحين والآخر في الجهة الرسمية التي تتولى الاشراف على الآثار.

يقول بوشهري: «عندما يتقاعد أي اداري او ينتقل من مكان عمل الى آخر يتوقف ما بدأ به من اعمال. وبالتالي يأتي الاداري الجديد ويبدأ من الصفر وهذا ما يتسبب بالتأخير في غالبية الاحيان»

ويذكر بوشهري في هذا الصدد واقعة جرت لخبير آثار اميركي جاء إلى البحرين في السنوات الماضية.

يقول: «جاء خبير اميركي الى البحرين ليتولى الاشراف على عمليات التنقيب. لم يتم تحديد برنامج عمل محدد له لكي يقوم بمهماته وبالتالي قضى فترة وجوده في البحرين من دون عمل يذكر الى أن غادر البلاد».

«إشهار دلمون»

يرى بوشهري ان البعثة الدنماركية هي التي قامت بإشهار حضارة دلمون في بداية الخمسينات من القرن الماضي، لكن الاكتشاف لهذه الحضارة يعود الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

يقول: «تولت البعثة الدنماركية إشهار حضارة دلمون على المستوى العالمي، لكن اكتشاف دلمون تم في العام 1880 حين تولى ضابط بريطاني يدعى كابتن بيرن كان يعمل مع الحكومة البريطانية عمليات التنقيب في البحرين».

ويضيف: «اكتشف كابتن بيرن حجرا اسودا يحمل كتابة مسمارية وقام بعدها بعرضه على احد المختصين بالكتابة المسمارية في العاصمة البريطانية لندن. كانت الكتابة تحتوي على عبارة خادم المعبد إله انزار وهو إله دلمون. لقد كان هذا الخبير اول من تحدث عن حضارة دلمون».

وعن تطلعات وزارة الاعلام لجعل قلعة البحرين موقع جذب سياحي في المستقبل قال بوشهري: «هناك نية لدى الوزارة باستملاك ارض قريبة من الموقع وانشاء بعض المرافق السياحية فيها وهذا امر ايجابي لأن هذه المرافق ستكون خارج نطاق القلعة ما يعني ان القلعة ستبقى كما هي».

ويضيف: «عملية اكتشاف مخزون قلعة البحرين التاريخي والأثري يحتاج الى جيلين قبل الانتهاء منه بشكل كامل. فالقلعة لم تنقب بشكل كامل. وهناك ايضا مواقع مجاورة للقلعة لم يبدأ التنقيب فيها بعد».

وكشف بوشهري عن احتمال قد يغير مسار البحث التاريخي في حضارة دلمون ويغير ايضا خريطة المواقع الاثرية بأكملها مضيفا آثارا جديدة. في كل الاحوال انه احتمال يتعين علميا التحقق منه.

يقول بوشهري: «الساحل المقابل للقلعة لم يتم التنقيب به حتى الآن. لدينا كتابات تثبت ان تاريخ القلعة يعود الى 3200 قبل الميلاد، لكن حتى الآن لم نعثر على مدينة يعود تاريخها الى هذه الحقبة. فالقلعة بشكلها الراهن لا تفصح عن تاريخ يتجاوز القرن السابع عشر. اذن هناك اجزاء كثيرة لم يتم اكتشافها بعد وبالتأكيد ان هناك تغييرات طرأت على الساحل ما يرجح وجود بقايا المدينة الدلمونية تحت مياه البحر».

ويخلص بوشهري للقول: «من اولوياتنا الآن ان نعمل على حماية هذا الإرث التاريخي العظيم ويتوجب تسجيله في اليونسكو كي نضمن حمايته بالشكل المطلوب وهذا ما تسعى إليه الوزارة الآن».

يرى بوشهري ان عملية الحفاظ على الآثار في البحرين والترويج لها أمر لا يمكن القاء اللوم به على الحكومة فقط ولكنه ايضا مسئولية مجتمع بأكمله.

يقول بوشهري: «لماذا نلقي اللوم على الحكومة دائما. هناك جهات اهلية يفترض ان تدفع جهودها لابراز اهمية الآثار بالنسبة إلى البحرين. لماذا ننتظر دائما الحكومة من دون ان يكون هناك تعاون بين المؤسسات والجمعيات المختصة للاهتمام بهذه المواقع؟ على سبيل المثال طبع كتبيات بغرض الإرشاد السياحي».

احد المهتمين المعروفين بالتاريخ والآثار في البحرين وهو تقي البحارنة، يرى ان البحث في موضوع الآثار في البحرين يستدعي أولا محاسبة الماضي كي نتلافى اية أخطاء في المستقبل.

سألناه في البداية عما اذا كان التقصير يقع على مستوى الناس من حيث الاهتمام بالآثار وهو مايدفع الى شيوع نظرة عامة تتسم بالإهمال في البحرين؟

يقول البحارنة: «الحكومة أصدرت قانونا ووضعت يدها على الآثار. بالتالي إذا كانت هناك ارض تعتبر ملكا خاصا وتوجد فيها آثار فبالتالي يجب أن تنتقل ملكيتها للحكومة ولا يجوز العبث بها ومن هذا المنطلق تلقى المسئولية على الحكومة وبالتالي عليها ان تجيب على الأسئلة. هل اعمال الترميم تتم بالشكل الصحيح ام لا؟ وعليها ان تقنع الجمهور ان الآثار التي أخذت للدنمارك تم ارجاعها، فهذا تراث امة وان يتم التحقيق عنها بشكل كامل».

يضيف: «في القرن الثامن عشر، زار تلال عالي بعض الرحالة وقالوا ان هذه التلال يصل عددها الى 500 ألف لكن الآن لم يتبقَ منها الكثير. وعلى الحكومة ان تجيب عن هذا التدمير فنحن في عهد الشفافية وبالتالي يتوجب ان توضح الأمور لأنها أزيلت واكلتها المدن مثل مدينة حمد وأملاك خاصة شيدت على هذه التلال. وبالتالي الدولة ملزمة بإعطاء معلومات عن هذه التلال. لا توجد استراتيجية كاملة بشأن التعامل مع المواقع الأثرية في البحرين وهناك الكثير من المواقع في البحرين لم يتم التعامل معها بشكل كامل مثل معبد الدراز».

هل يمثل النمو السكاني في بلد صغير مثل البحرين عقبة في هذا الصدد؟. ماذا يمكن أن نفعل أمام أهمية الآثار التاريخية وأهمية تشييد الأبنية للسكان الذين يتزايد عددهم؟

يقول البحارنة: «لو تم التعامل مع المشكلة بشكل أفضل منذ البداية لكانت الأمور أسهل بكثير. لو كانت لدى الحكومة فكرة واضحة عن التوسع السكاني، لكانت اوقفت المنح الضخمة من الأراضي لأفراد وكانت آنذاك ملكا للدولة وتم توزيعها من دون اعتبار للعنصر السكاني. لكن لايزال هناك مجال كبير للسكن والحفاظ على الآثار يجب ان لا ننسى ان الآثار لها وضع خاص وحجة ان الآثار تمنع التوسع العمراني حجة غير سليمة». ويكمل بالقول: «أرى أن اكبر التلال موجودة في قرية عالي ووجود التل نفسه معلم من معالم التاريخ كذلك ما يحدث في سار إذ تتولى بناء عشش حولها ورمي القمامة، كان من الممكن أن نبقي على هذه التلال كمعلم سياحي بدلا من أن تكون البيوت ملاصقة لها بحسب الشكل الحالي وهذا ما يدل على عدم الاكتراث بالآثار».

هناك من يرى ان العناية بالآثار عملية مكلفة جدا وبالتالي هناك أولويات اخرى لدى الحكومة وبالتالي يجب التركيز على موقع واحد فقط هو موقع قلعة البحرين؟

عن هذه المسألة يقول البحارنة: «مع تفهمي لوجه هذه النظرة. لكن هذا غير واقعي، هناك دول أفقر من البحرين وحافظت على آثارها. وهناك منظمات عالمية تتولى تقديم الدعم والعناية بالمواقع الأثرية خصوصا «اليونسكو». هذه المنظمات تريد من يخاطبها بشكل جدي. كذلك لا ننسى ان هناك أهمية كبيرة للاستثمار بالمواقع الأثرية، فهذا الاستثمار له فوائد بعيدة المدى. فإذا تمت تهيئة الآثار وأصبحت مهيأة لاستقبال الزوار وأصبحت تحتوي على مواد ثقافية وعلمية للمهتمين بالمجالات الأثرية ستستفيد البحرين بشكل كبير وتصبح محجا للسياح ولا اقصد هنا بالسائح الذي يزور المواقع بغرض ترفيهي إنما السائح بغرض البحث والدراسة بشكل متخصص».

ويمضي قائلا: «الدولة لا تتصور ان الاستثمار في إحياء الآثار والتراث هو بلا مردود، بالعكس المردود المعنوي هو الحفاظ على التراث العالمي وهذه مسئولية كل دولة ونحن كما غيرنا وقعنا اتفاقات لا عد لها ولا حصر وتلزمنا بالكثير من الأمور أيضا. هذا الاستثمار له مردود مادي لو ان المسئولين فتحوا المجال أمام المؤسسات والشركات الأهلية للاستثمار بهذا المجال وتقديم خدماتها. وبالتالي العملية تحتاج إلى الاهتمام بشكل خاص.

لكن مع الأخذ بعين الاعتبار عدم الاهتمام الرسمي، هل يمكن تحميل الناس مسئولية الترويج لهذه الآثار؟ فمن النادر جدا ان يتحدث البحرينيون عن آثارهم. ومن النادر جدا ان نجدهم يصطحبون ضيوفهم من خارج البحرين الى هذه المواقع، كما ان حضور هذه الآثار قليل جدا في الحياة اليومية؟

يقول البحارنة: «نحن نحاسب الماضي كي لا ترتكب الأخطاء نفسها ولكن علينا النظر إلى المستقبل. الآن يوجد برلمان وهناك حكومة تشتمل على دوائر باختصاصات مختلفة وهناك علاقات دولية تنظمها معاهدات لحفظ الآثار ولدينا بلديات ومحافظات، كل هذه الجهات لو كل واحدة تحملت جزءا من هذا الهيكل الكبير لاستطعنا أن نتلافى ما حدث، الآن يجب ان تأتينا الحكومة بوزارة تضع الآثار في أولوياتها أو أن تفصل إدارة التراث والثقافة وتكون لها مؤسسة خاصة تكون قادرة على التخطيط على المستوى العالمي وقادرة على إيجاد المصادر المالية من القطاع الخاص ومن المؤسسات الأهلية بالإضافة الى ما يكون متاحا بموازنة الدولة اذا أعطيت أولوية، هذه الطريقة الوحيدة التي ممكن ان ترضي المهتمين».

جزء آخر من الوضع هو ذلك المتعلق بالأجهزة المعنية بالآثار. في هذه النقطة هناك من يرى ان هناك قلة في الكفاءات البحرينية الموجودة بهذا المجال. وهناك وجهة نظر أخرى تقول يجب ألا نقلل من شأن المنقب البحريني الذي يتعامل مع المعطيات بما يتوافر له.

عن هذه النقطة يقول البحارنة: «ليس لدي عقدة الأجنبي، أجد ان البحريني اذا تدرب هو كفوء وباعتبار ان هذا تراث بلده سيكون أكثر حرصا عليه. التنقيبات الأجنبية مع احترامي لكل من ضحوا لأجل ابراز هذه الآثار ودوافعهم سواء من اجل الدراسة او البحث، لكن هناك ثغرات يمكن ان تتهم من خلال تسرب الآثار الى الخارج ومصر اكبر دليل على ذلك. وقد تمت هناك سرقات ضخمة من قبل الأجانب.

ويتابع قائلا: «لكن المنقب البحريني لن يفعل هذا بتراث بلده. والسؤال هو خلال الأعوام الخمسين الماضية كم بحريني تدرب على تنقيب الآثار وكم بحريني تخصص؟ وما هي الحوافز التي ستدفع البحريني للتخصص بعلم الآثار؟ هل يذهب ويتخصص على حسابه الخاص ويعود ولا يجد عملا في البحرين؟».

سألنا البحارنة عن امكان أن تتحول المواقع الأثرية الى مصدر لتشغيل الكثير من الناس. ففي الكثير من المدن العربية والغربية التي تحتوي على مواقع أثرية استفاد أهلها من هذه المواقع بصورة مباشرة من خلال التعامل مع الزوار والصناعات التي أقيمت بالقرب من هذه المواقع والتي تباع للسياح. هل هذا ممكن ان يتحقق في البحرين؟

يجيب محدثنا: «هذا صحيح. هذا كله يتحقق فيما لو تم الاستثمار بشكل صحيح للمواقع الأثرية وستتوافر الكثير من فرص العمل لأهالي المدن والقرى القريبة من المواقع. السياحة تعتبر اليوم الصناعة النظيفة الوحيدة وذات مردود كبير. يجب أن لا نخلط بين مفهوم السياحة وبين إحياء التراث لكل منهما ظروفه. السياحة هي التي تأتي بالأخير بعد إكمال الصيانة وتحضير المواقع واذا اتت قبل الإعداد خربت المواقع من تصرفات السياح».

ويختم البحارنة حديثه بنداء للمحافظة وصيانة الآثار في البحرين إذ يقول: «أحب ان أوجه نداء من خلال هذا اللقاء الى مؤسسات الدولة والمجلس الوطني بفرعيه مجلس النواب والشورى والمحافظات والبلديات إلى جانب القطاع الأهلي مثل جميعة آثار وتاريخ البحرين والأفراد المهتمين. يجب ان تكون هناك جهود متكاتفة لحماية الآثار اضافة الى خلق علاقة وطيدة مع المؤسسات العالمية المعنية بالحفاظ على التراث العالمي. واعتقد ان الكثير من الجهات العالمية مستعدة للمشاركة في الحفاظ على آثار البحرين. يجب ان نستدرك ما حدث في الماضي وان نحمي هذه الآثار من الاندثار»

العدد 658 - الخميس 24 يونيو 2004م الموافق 06 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً