طبعا في الحلم... فنحن مجتمعٌ لم نصل إلى درجة من النضج بحيث تصبح الاستقالة مخرجا مشرّفا من الورطة التي يجد المسئولون المخطئون أنفسهم فيها. أمامنا قرنٌ من الزمان حتى تصل إلينا ثقافة اتخاذ القرار الشجاع حين تطفح الروائح على السطح، يستوي في ذلك الوزير والمدير والكبير والصغير.
على أن «الأوقاف» كان من الملفات الساخنة التي انكشف للرأي العام عمق الأخطاء والتجاوزات التي مورست تحت هذه الخيمة. وعلى رغم الاحراجات التي يشعر بها المرء وهو يتناول هذا الملف «المقدس»، إلاّ ان الجماعة لا يتركونك لتكون محايدا، هذا إن كان الحياد في مثل هذا الموضوع صحيحا شرعا. فالجماعة في كل يوم لهم قصة وحكاية، آخرها مقبرة مقابة، ولن تكون مقبرة توبلي آخرها، بل هناك همسات عن مشروعات قادمة في مقبرة «أبوعنبرة» بين طشّان والبلاد القديم، البعض يقول لإقامة مطاعم والبعض الآخر يقول لسكن عمال أجانب... والحبل على الجرار. ومع ذلك لا يجد الجماعة غضاضة في البقاء في مناصبهم، بعد كل ما كشفه السيدضياء الموسوي طوال 25 يوما في موسم عاشوراء من حقائق و«روائح»، إلاّ ان العرفاتيين مازالوا يردّدون: «يا جبل ما يهزك ريح»، اكتبوا ما شئتم وسنبقى في مناصبنا، حتى ينزل ملك الموت ليتسلم أمانته! ولم يكلّفوا أنفسهم عناء الرد على ما جاء في مقالات السيد، بينما كتبوا في مكان آخر: «لم يصرف فلسٌ واحدٌ من أموال الأوقاف في غير محله»! ألهذه الدرجة من الثقة المفرطة بالنفس؟ أم انها المكابرة وركوب الرأس على طريقة من يرى الثور فيقول انه جمل!
في البلدان المتحضرة عندما يخطئ وزير أو رئيس جمهورية يقف أمام الجمهور ليعلن انه أخطأ، أما لدينا فلا يوجد من يخطئ، الكل معصومٌ ولا ترقى إلى ذمته الشكوك. كل قرار حكيم، وكل إجراء صائب. وإذا وقف مجموعة من الأهالي ليدافعوا عن مقبرة قريتهم المنتهكة التي تضم رفات أجدادهم وستضم رفاتهم أيضا، واجهوها على طريقة الدفاع الصبيانية: «إن عدتم إلى العام 2002 عدنا إلى العام 1934».
أطرف ما في ردّ الأوقاف هو القول بأن «بعض الشواهد وضعت للإيهام»! فهكذا يتم التعامل مع الأهالي وتظلّماتهم ومطالبهم في الفترة التي نطالب فيها بالشفافية وسيادة القانون ومواجهة التجاوزات والفساد المالي والإداري والأخلاقي. وقبل الأخذ بمثل هذا التبرير الهزيل، لابد من أن يرفع الأمر إلى طرفين ليقرّرا فيه ما دامت الأوقاف تصرّ على التعامل مع الرأي العام بمثل هذا الاستخفاف: الطرف الأول هو الأهالي، خصوصا كبار السن، فهم الذين ينبغي اعتماد اقوالهم في مثل هذه الأمور العرفية، والطرف الآخر هو علماء الدين الموثوقون، سواء كانوا ممن يعملون بسلك القضاء أو المستقلين، لا أن تترك المسألة إلى جهةٍ هي نفسها موضع تساؤل واتهام، بعد أن اختارت الوقوف إلى جانب المتنفذين.
الجديد في الأمر أن أهالي هذه القرية المنسية يتناقلون ان مطالبهم بشق الشارع وإصلاح وضع القرية تعود إلى عدة عقود، وان الشارع لم يشق إلاّ بعد طرح المشروع التجاري، ولخدمة بيتٍ فخمٍ كالقصر بني على طرف المقبرة لأحد الكبراء. ويستدلون على ذلك بالسرعة والاستعجال الذي تم فيه نصب المصابيح الكهربائية وجلب مخلّفات البناء لطمر القبور في الطرف الجنوبي من المقبرة لانجاز الشارع «الموعود»! عندما تجول مع الأهالي ستشاهد بنفسك الاهمال داخل القرية، بينما تقوم عند مدخلها الفلل الفخمة والبيوت التي يسكنها الاجانب، وأكثرها ان لم يكن كلها ملك للأوقاف. ولن تجد عينك صعوبة في التقاط الفرق بين المسجد عند مدخلها وبين المسجد الداخلي الذي تدخله كما تدخل أحد الكهوف.
ملف الأوقاف لم ولن يغلق، والجمهور كان ينتظر تحرّكا جديا من علماء الدين، على مستوى خطورة القضية وارتباطها بالمقدسات، ولكن حتى هؤلاء لا يبدو في الأفق انهم بدأوا بالتفكير في الحركة حتى الآن، وكل حركتهم يحكمها الانفعال الوقتي، والانفعال أعجز عن حلّ مشكلة معقدة مثل الاوقاف. وهذا الحال ربما يدفع اليائسين من امكان الاصلاح إلى رمي الكرة هذه المرة في مرمى الجمعيات السياسية، وخصوصا ذات التوجه الديني، بصفتها إحدى مؤسسات المجتمع المدني، للتحرك واستلام الملف، وتشكيل لجنة متابعة تتولى إصلاح الامور، مادامت كل الأبواب مغلقة أمام إصلاح الوضع في هذه الخيمة المنهوبة.
لو كنت مسئولا في الأوقاف لبادرت بالاستقالة، والاعتذار عن كل الأخطاء التي ارتكبت، ولتبرئة الضمير من كل ما يقال، ولكن..
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 657 - الأربعاء 23 يونيو 2004م الموافق 05 جمادى الأولى 1425هـ