ما إن تعود إلى دبي بعد أشهر قليلة من مغادرتك لها حتى ترى أن الورشة التي أقامتها اكبر مدينة خليجية سرعة في التوسع، تكبر إلى درجة انك تحتاج إلى بعض الوقت للتعرف على المعالم التي كنت تعرفها في السابق، أما إذا كنت مثلي تحتفظ بذكرى جلسات رجال أهل البحر على الخور في ستينات القرن الماضي، فلا شك أن المقارنة تصل إلى حال عدم التصديق. ما هي أسرار دبي، التي جعلتها قبلة للمستثمرين وللسياحة بكل أشكالها حتى في أشهر القيظ بالغة الحرارة؟ قد تتلخص في كلمة واحدة، وهي تصور واضح من القيادة لما يحتاجه عصر معولم، أما التفاصيل فهي كثيرة.
صديق قال لي وهو شابٌ في ريعان صباه رافقني إلى بعض المشروعات العمرانية، إن عيون دبي مثبتة على ثلاثين مليونا من الطبقة الوسطى في الهند، سيقصد عدد منهم مدينة دبي، أما للبقاء فترة أو للعمل وسطاء لتوزيع الإنتاج الهندي المتعاظم في السلع والخدمات على أسواق الشرق الأوسط الآخذة في النمو.
ثم يضيف صاحبي أن مدينة نيويورك التي هي ملتقى وبوتقة لكل نصف الكرة الغربي، تفتقد أن تكون قريبة منها سوق فيها بليون ومئتي مليون من البشر، ينمو دخلهم الوطني بأكثر من ستة في المئة سنويا، ويختزنون قدرة بشرية وتقنية هائلة، هؤلاء على بعد ساعتي طيران فقط من مطار دبي الدولي، ليس هؤلاء فقط، إنما الجوار الخليجي الذي تتوافر فيه فيوضات نقدية تزداد كل عام، ولا تجد لها مكانا آمنا في العالم بعد كل ما حصل منذ الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، ووجدت لها مرفأ دافئا وحصينا هي دبي، فأصبحت قبلة للمال الخليجي وأيضا للسياحة الخليجية.
لقد أسقطت دبي بعض المحاذير التي تكاد أن تكون مرجعا لا حيدة عنه في دول الخليج الصغيرة.
بدا هو احتكار الداخل ضد الخارج، وكانت تلك المقولة بمثل التابو للجميع في الخليج، أن يحافظ على نسبة لا تزيد عن مقدار معين في استضافة اليد العاملة أو المستثمرة، بحجة إتاحة الفرصة للمواطنين، وعدم غلبة الخارج على الداخل، لقد كانت النسب بين المواطنين وغير المواطنين في بلداننا تأكل ذخيرة الفكر العربي الوطني، وكان المحك لدى كثيرين في جدية الدولة من عدمها، واحسب أن تلك الفكرة المعوقة مازالت صحيحة لدى البعض، لدى هؤلاء، الإجابة عن السؤال: كم نسبة المواطنين وكم نسبه غير المواطنين في سوق العمل؟ وعلى نوع الإجابة عن ذلك السؤال ترتبت المواقف.
أما في دبي اليوم فقد سقطت تلك الحجة التي لم تعد عملية أو حتى عقلانية، فان كنت عربيا أو غير عربي، من الخليج أو من خارجه، ولديك أفكار ورأس مال وقدرة على التنفيذ وإرادة، فان دبي لن تقول لك لا، بل تفضل على الرحب والسعة. تستطيع أن تحصل على ترخيص لمزاولة عملك الذي تختار من دون تعقيدات.
قد تكون هذه النسبة الصماء في حساب الكتلة السكانية بين مواطن ومقيم، مقبولة في دول ومجتمعات تتميز بالثقل البشري الكثيف، ولكنها لم تعد مقبولة اليوم في عصر العولمة، خصوصا في الدول الصغيرة ذات كتلة سكانية لا تشكل سوقا اقتصادية، فهؤلاء السكان القادمون من الخارج، يضمهم إطار قانوني واضح، كما يرفدون الخبرة الوطنية بخبرة عالمية، وبالتالي يثرون رأس المال البشري ولا ينقصون منه.
ودعوني انقل لكم الآتي وهو يفضح شكلا من أشكال التخوف المرضي من الهجرة في مجتمعات أخرى يقول النص: «لدي كثير من التحفظات بشأن هؤلاء المهاجرين بسبب ارتباطاتهم العشائرية وقلة معرفتهم بالإنجليزية وأعلامهم، وازدياد الحاجة إلى المترجمين، وخلال سنوات أظن أننا سنحتاج إلى مترجمين في الكونغرس ليخبروا نصف مشرعينا ما يقوله النصف الآخر!».
هذا النص ليس نقلا عن أحد المتشددين في الربع الأخير من القرن العشرين، ولا حتى من مخلفات القرن العشرين نفسه، إن هذا النص قاله بنجامين فرانكلين أحد «الآباء المؤسسين» في الولايات المتحدة في سبعينات القرن الثامن عشر، الذي أخافه وقتذاك تأثير المهاجرين الألمان على الكتلة السكانية في أميركا الوليدة! ثم أصبحت أميركا بفضل المهاجرين أغنى وأقوى بلد في عالم اليوم. إذا كان الأمر صحيحا وقتها فهو أكثر صحة اليوم، وتجده في دبي موزاييك من الأجناس المحيطة من الصين حتى المغرب، ومن هولندا حتى جنوب افريقيا يعيشون ويعملون في تناغم إنساني لافت للنظر.
قال لي الصديق في دبي انه باع قطعة ارض على رجل من أصول آسيوية بمبلغ كبير يعد بملايين الدراهم، وقال له المشتري لقد جئت إلى هذه البلاد منذ ثلاثة عقود وأنا البس قميصا قطنيا رخيصا وبنطالا واحدا، حاملا ثلاثة (كرتونات) من السجائر لاستهلاكي الشخصي، ذلك ما كنت املكه، وفي بضع سنوات وبكثير من العمل أصبحت أملك ما أملكه اليوم!
الخيال وإلارادة هما من عناصر النجاح المعروفة في الفكر الاقتصادي الحديث، ولكنها متعلقة بالافراد. في دبي تنعكس الآية فتصبح الحكومة المحلية هي القائدة في التطوير، وهنا الاختلاف الملحوظ. الذي يخيف البعض أن تتضخم الحكومة إلى حد يعجزها عن القيام بمهماتها، هذا التخوف في دبي له حلول، وهو الحكومة الالكترونية. في نهاية العام الماضي أصبح ممكنا في دبي أن تحصل على 600 خدمة عامة وأنت أمام جهاز كمبيوتر، لا يعبس في وجهك أحد أو يدعوك للقدوم غدا! ابسطها أن كثيرا ما يقف البشر صفا طويلا ومتعبا في بلداننا لدفع مخالفة مرور، في دبي تدفع المخالفة وأنت تتسوق أمام كمبيوتر منصوب في أكثر من مكان، ادخل رقم سيارتك تعرف كم من المال يتوجب عليك دفعه، ثم ادخل المبلغ فقط لا غير، ثم أكمل تسوقك. مثل هذه الخدمة يوجد 599 أخرى والحبل على الجرار.
سائق من القارة الآسيوية تكرّم صديقي بإعارته لي لفترة فأصبح دليلا لي في دبي، وبعد طواف تخلله الشرح والتعريف، انتبهت إلى انه يشير في كلامه إلى (نحن) في شرحه للمواقع أو إشارته للاماكن، نحن فعلنا كذا، ونحن سنقيم هنا المشروع الفلاني. تحيرت كيف يشير إلى نحن بهذه الصيغة المكررة، فسألت من هم نحن؟ ثم تبين انه يشير إلى من ساهم ويساهم في بناء دبي ويعتبر نفسه منهم وهو سائق سيارة بسيط. قال بعد سؤالي إن لي فترة أقيم هنا في دبي وأنا اشعر إني من أهلها، وكل تقدم فيها يعود علي وعلى أسرتي بالخير، هذا ما تسميه الأدبيات الولاء، أليس كذلك؟
تلك واقعة شهدتها تؤكد أن القرن الحادي والعشرين والعولمة التي يدخل البشر فيها لها قواعد إما أن تلعب، أو تترك فتهمش، لذلك نجد دبي بسبب فهمها للقواعد تلك تجاوزت المحذورات القديمة.
لا أريد أن يفهم أحد أن ذلك تم على حساب الأهل المحليين، فأين تذهب تجدهم يؤدون عملهم بصمت وإتقان، في المطار على بوابات الدخول، أو فتيات يعملن مروجات للبيع في ذلك المشروع الكبير الذي زرته مع الصديق، وهنا يأتي الأمر الآخر المهم وهو أن التنمية الشاملة، لا تسقط من حسابها المواطن، ولكنها لا تحميه حماية تفقده المناعة ويصير عبئا على الدولة في معيشته، بل تشجعه على المبادرة وحب العمل والانخراط في مجتمع تعددي.
في تجمع إنساني مثل هذا لابد من وجود قانونٍ عادلٍ ورادعٍ ومطبقٍ على الجميع، هذا ما يفضله المستثمر، لأن التغييرات المستمرة على القوانين بحسب الأمزجة، تفقد ثقة المواطن والمقيم في الاستمرار التي هي صلب أية تنمية حقيقية.
واحترام القانون في دبي يتجاوز قاعدة أن أهل البلاد وغيرهم متساوون أمامه، بل وحتى يتجاوز ما يحب بعضنا أن يسميه «التسامح»، هو أكثر من ذلك، هو القبول. التسامح يعني أنك بشكلٍ ما متفضل على الآخر المختلف فتتسامح معه، أما القبول فهو العيش المشترك في ظل القانون من دون منة.
تلك بعض أسرار دبي المعلنة، والتي كانت قبل عقود قليلة فقط تتطلع إلى القوانين في بلاد الخليج من أجل اقتباس النافع منها، إلا أنها خلقت اليوم تجربة ناجحة بحد ذاتها، فيها من الابتكار والجسارة ما تتسابق بسببه المدن الخليجية الأخرى، كي تصبح دبي ثانية! إلا أن النجاح لا يخفي أسراره: خيال خصب وقراءة للمستقبل وجسارة في التنفيذ
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 655 - الإثنين 21 يونيو 2004م الموافق 03 جمادى الأولى 1425هـ
تحيه لمحمد
التحيه لمحمد بن راشد نحن نتوق الي العيش في دبي هنيا لاهل دبي بمحمد بن راشد