بعد أن انتهينا من اجتياح مقابر «عالي» الأثرية التي سبقت ظهور الإسلام، وصل «البلدوزر» إلى فترة ما بعد الإسلام! فها هو مسلسل الاجتياح على طريقة شارون يصل إلى مقابر الفترة الإسلامية: كرّانة من قبل، ومقابة أمس، وتوبلي اليوم. وإذا كان اجتياح مقبرة كرّانة توقّف آليّا بعد قليل من صحوة الضمير ومراجعة النفس قبل أربع سنوات، فإن مقابة أمس، وتوبلي اليوم، تشيران إلى نجاح «رأس المال» في اختراق بعض المناطق التي كنا نحسبها محرمة حتى وقت قريب!
ولعلنا الشعب الوحيد التعيس الذي كُتب عليه أن يمتهن تراثه وتاريخه ويتلاعب بآثاره التي تعود جذورها إلى أعماق التاريخ السحيق. الشعوب المتحضّرة التي تحترم نفسها تقيم المتاحف لتجمع فيها مواريثها الحضارية، ونحن لدينا أكبر مقبرة في العالم نقوم بالعبث بها بهذه الصورة الصبيانية التي تدلّ على الجهل والغباء والاستهتار.
الأميركان يجمعون أحذية رؤسائهم وأعواد الثقاب التي يستخدمونها وآخر سيجارة دخنوها، ويصنعون من فساتين ممثلاتهم وراقصات «أوبراتهم» تاريخا من الزجاج الرخيص، ونحن لدينا كل هذا التاريخ الذهبي نتفاخر بمسخه ودوسه بأقدامنا.
لا غرابة أن يأتينا عصر الخميس الماضي أحد المواطنين البسطاء وهو يتحرّق على ما ستئول إليه مقبرة مقابة، يشكو الحال وينقل الهمّ إلى مهموم. تركت ما بيدي من عملٍ يومي وخرجت معه إلى المقبرة المنتهكة، ورأيت بأم عيني مخلّفات البناء التي طمرت بعض القبور من الجهة الجنوبية، ورأيت الشارع الذي خطّطوا لشقّه من أجل عيون بعض المتنفذين والتجّار ليقيموا مجمّعا تجاريا - كما نقل الأهالي - في الجهة الشمالية. كما رأيت المصابيح الكهربائية التي ترتفع على مصطبة لا يزيد سمكها على أربع بوصات بينما في الوضع الطبيعي يكون سمك القاعدة عدة أقدام لتصمد أمام الرياح اذا عصفت. وتساءلت: ماذا لو سقط المطر وانزاحت التربة عن قاعدتها؟ من يضمن عدم سقوطها على رؤوس الأطفال لو جلسوا تحتها يلعبون؟ من هو المقاول الذي أقام هذه المصطبات التافهة؟ أين هو مسئول الاوقاف الذي صدّق على الاتفاق؟ أليس هناك من يفتّش على العمل بعد تنفيذه ليتأكد من مطابقته للمواصفات؟ أم انه التهاون بأموال المسلمين بعد مسلسل التهاون بأموال الامام الحسين؟ واللهِ لو كان المقاول يبني لأحدهم بيتا من طابق واحد لوقفوا على رأسه يدقّقون، ولكنها «أموال الحسين... ونحن أحقّ بها» كما قال بعض المتلاعبين بالحرف الواحد!
في الجهة الشمالية لا يوجد سورٌ مرتفعٌ يحمي المقبرة من التآكل والقضم والضمّ، الأهالي كانوا قلقين من السطو «الشاروني» على الأطراف الشمالية منها بعد الشروع في إقامة «المشروعات التجارية» المرتقبة على رفات الموتى، والتي عوّدنا أصحابها على عدم الاكتراث بشيء اسمه المصالح العامة، مع غيابٍ تامٍ للرقابة، والجهة التي يفترض فيها القيام بدور الرقيب وحماية مثل هذه المصالح الشرعية، يُخشى أن تكون متورطة في تيسير أمور المتنفذين أصلا كما كان يحدث في الكثير من الأحيان.
هناك طرفٌ آخر مسئولٌ ومحاسبٌ عن مثل هذه التجاوزات، ونحن لن نخاطب الحكومة هذه المرة ونجرّمها في مثل هذا الأمر، ولكن سنخاطب من هو مسئول مسئولية مباشرة عن مراقبة الأمور الشرعية، وهم علماء الدين. فقد بحّ صوت السيدضياء الموسوي من النداء، وذهب إلى المنازل طمعا في تحرّك المعنيين لإنقاذ الأوقاف وإنعاش المجتمع، ولكن... إذا لم يتحرك كبار العلماء على مثل هذه القضية الواضحة وضوح الشمس فعلى ماذا سيتحركون بعد اليوم؟ هذه أموال الحسين الشهيد يتركونها نهبا، والكلّ يدري ويلزم الصمت وكأن الأمر لا يعنيه. بالأمس كانت مبررات التعفف عن الدخول في البيئات الفاسدة والحفاظ على نظافة الأذيال، أو التخوّف من اتهام «الأبرياء» بغير حق، أما اليوم فالقاصي والداني يعرف التجاوزات والتلاعبات في أموال الحسين بالأرقام والتواريخ وأرقام الشيكات! وعندما نطق علي الحداد بالحقائق جرجروه إلى المحاكمة ليقف في قفص الاتهام، بينما أصحاب التواقيع مكرّمون معزّزون!
مطالب أهالي مقابة محدّدة ومنطقية وشرعية: احترام مقبرتهم، وترك عظام موتاهم في سلام، فهل تستكثر عليهم الأوقاف «الشرعية» ذلك؟ أم تقبل بأن تلعب دور شاهد الزور؟ ... اللهم فاشهد
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 655 - الإثنين 21 يونيو 2004م الموافق 03 جمادى الأولى 1425هـ