حين تزور الصين بعد غياب 25 عاما عنها يبدو لك للوهلة الأولى كأنك في صين أخرى تماما. صين ليس فيها حرارة «الكفاح البروليتاري» ولا حزم «النضال ضد الامبريالية» ولا طبعا فوضوية «الثورة الثقافية الكبرى» أو دوامة «الصراع الطبقي» لعصابة الأربعة بقيادة زوجة الزعيم الكبير ماوتسي تونغ.
ولكنك ما إن «تتسلل» إلى قلوب الصينيين «بالمعاملة» أو بالنقاش أو بطريقة كشف «أسرار الآلهة» حتى تكتشف أن روح ماوتسي تونغ وتشوان لاي ورفاقهما الثوريين الذين وضعوا حجر الأساس للدولة الصينية الحديثة لاتزال تسري بقوة في عروق غالبيتهم، حتى الشباب المولع بـ «العولمة» الأميركية. تماما كما هي الكونفوشية التي لاتزال تضرب أطنابها في أعماق الإنسان الصيني، الأمر الذي يجعلك تستنتج ولو بعد لأي أنك أمام صين عظيمة وهائلة في مجالات كثيرة يصعب حصرها، أهمها الحكمة والحساب والدقة والإصرار على حماية تقاليد الصين العريقة. صين كبرى بكل المقاييس، عقلها مع ماوتسي وروحها عند كونفوشيوس.
إن صين اليوم تراها تبحث بإصرار عن أفضل الطرق للتوازن بين العقل والروح. تبحث عن توازنها مع العالم كما تبحث عن توازن العالم فيها لأنها هائلة بالأرقام والأحجام والحاجات كما في التطلعات. ولأنها تعرف أنها هائلة فهي تمشي بمنتهى الهدوء والطمأنينة ومن دون صخب، فهي تعرف أن أي ضجيج يصدر منها قد يعني «ضجة» عالمية لا يمكن السيطرة عليها بسهولة حتى لو أرادت دولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية ذلك.
فبقدر ما هي أميركا غارقة في ماديتها المتوحشة وإصرارها على عسكرة الفضاءات العالمية بقدر ما تبحث الصين عن روحانية «معقلنة» تكرّسها في مجتمعها أولا ثم تفكر في «تصديرها» للعالم إن أمكن.
عندما تزور «الرفاق» في جمعية التفاهم الدولي - الذين «نذروا» أنفسهم على ما يبدو من أجل تعزيز العلاقات الأممية نيابة عن الحزب الشيوعي الصيني بعيدا عن روح «الشيوعية» مع تفهّم جسور وجريء لخصوصيات الأديان والعقائد والثقافات لدى الأمم الأخرى - فإنك نادرا ما تسمع عن «مبادئ» الحزب الثورية والكفاح من أجل الاشتراكية والنضال ضد الهيمنة الاستعمارية، بل انك لا تسمع إلا كلاما «لطيفا» ومهذبا و«ناعما» عن النهضة السلمية والتنمية العلمية، ولا مانع طبعا أن تبدي رغباتك وتطلعاتك «البرجوازية»، فهي لم تعد «حراما» ولا من الممنوعات التي يعاقب عليها الحزبيون والكوادر، بل هي مسموح بها وإن كان ذلك بقدر!
وعندما تُبدي تخوفك أو قلقك على الصين من غزو ثقافي عولمي أميركي محتمل يقولون لك إن المثل الصيني الشهير، وربما هو قول لحكيم الصين الإصلاحي دينغ تساو بنغ الذي توفي قبل عدة سنوات: «من يفتح الشباك لابد له أن يتحمل دخول الذباب والجاموس»!
إنهم مشغولون بكامل عقلهم وروحهم بتوفير لقمة عيش كريمة لأكثر من مليار ومئتي مليون صيني، وأيضا بناء دولة صينية عصرية يباهون بها الأمم، دولة ذات تقاليد صينية عريقة ولكنها لا تخاف الأخذ والاقتباس من الخارج حتى وإن كان هذا الخارج عدوها الامبريالي اللدود، أو جارها الياباني المحتل والعدواني سابقا.
تراهم «يتسللون» إلى تكنولوجيا العالم المتنوعة في كل مجال وبسرعة هائلة، وكأنك ترى لسان حالهم جميعا يعيد صناعة حكمة ماوتسي تونغ الشهيرة: «دع مئة زهرة تتفتح» فتصبح اليوم: «دع ألف شركة وألف مصنع وألف اختراع يتفتح».
ولأنها تعرف ما تريد، ولأنها لا تملك نوايا استعمارية أو عدوانية ضد أحد، ولأنها تنتهج درب الحكمة وتسير على مقولة: «كل شيء بقدر» فهي اليوم أشبه بصمام الأمان لتوازن العالم المطلوب، وتوازنها هي مع ذاتها. فهي كما تؤكد كوادرها القيادية ليست بصدد «المجابهة» أو شن الحرب ضد أحد حتى أعدى أعدائها، لأن الحرب بين أقوى دولة نامية وأقوى دولة هيمنية واستعمارية، أي بين الصين وأميركا يعني إشاعة الفوضى والاضطراب في العالم. ولكن الصين المقبلة الواعدة التي يعمل أبناؤها على إعادة بنائها خلية، خلية بإمكانها كما يعتقدون أن تهزم الامبريالية العدوانية وطّلاب الحروب من دون أن تطلق طلقة واحدة!
إنها الدولة الواثقة من نفسها والتي تظن أنها القادرة على تحقيق التوازن في داخلها وفي العالم من خلال تعزيز تربة الجذور الكنوفوشية والماوية ومزاوجة كلا المدرستين الصينيتين بمدرسة «البراغماتية» الغربية.
وكما يأكلون بالعيدان الصينية الشهيرة التي تقوي الأعصاب وتمرّن الذهن على الحيوية يديرون شئون بلادهم الداخلية. ودائما وأبدا: «كل شيء بقدر». يحاصرون المدن الكبرى المتغولة بريف مزدهر. ويحاصرون الأرياف بمدن نموذجية متقدمة كما يفعلون في تشونغ تشنغ جنوب الوسط. يحاصرون التقاليد بمدينة عصرية جديدة كما يحاصرون العولمة الزاحفة إليهم بمزيد من التثقيف الحزبي وغير الحزبي، وبالتقاليد العريقة كما يفعلون في مدينة شنغهاي الساحلية. يحاصرون دور الرجل الهيمني بمزيد من الأدوار الممنوحة للمرأة في الوقت نفسه الذي يجهدون فيه لإبقاء مكانة الرجل في الأسرة مصانة كما يفعلون في الريف والقرى. يحاصرون العاصمة بكين بعواصم جديدة ثقافية وصناعية واقتصادية، لكنهم يذكرونها جميعا بأنها ما كانت لتصبح مدينة وعاصمة مهمة لولا إشراف الحكومة المركزية وقيادة الحزب في بكين. يشددون على تحديد النسل مع قومية الخان الكبرى التي تبلغ نسبتها 92 في المئة فيما يتساهلون في ذلك مع القوميات الـ 54 التي تشكل 8 في المئة من تعداد السكان حتى لا تطغى الأكثرية فتتجبر ولا تشعر الأقلية بالدونية والاحتقار.
في المطر هم يعملون كعملهم في الأيام المشمسة. المرأة تجتهد عندهم بمثل ما يجتهد الرجل. شبابهم مثل كهولهم يحدثونك عن أيام الفداء والتضحية والثورة، وأيام النضال ضد العدوان الياباني وضد حكومة تشان كاي شيك الرجعية وكأنهم قاتلوا إلى جانب زعيمهم وبطلهم القومي ماوتسي تونغ ورفيق دربه تشون ان لاي العظيم. فتاة عمرها بين 20 إلى 22 سنة تشرح لك عن تضحيات ومعاناة تأسيس الحزب الشيوعي في العام 1921م وكأنها كانت من بين أعضاء الخلية الأولى!
المترجمة والمرافقة وعلى رغم كل تطلعاتها «البرجوازية» التي باتت مسموحة بل ومقبولة في صين دينغ تساو بينغ وجيانغ زيمين، فإنها تبدي إخلاصا منقطع النظير لروح الأممية الصينية و«طاعة» مقبولة لقيادتها الحزبية، والأهم من كل ذلك ربما توقها وشوقها لصين عملاقة تفخر بأسرَتَي مينغ وشينغ الملكيتين كما لروح كونفوشيوس، كما لعقل ماو ونضاليته. إنها تفخر بصينها في كل العصور.
يقبلون النقد برحابة صدر ولا يخافون «الخطيئة» ولا الخطأ، فأبناء آدم كلهم خطّاؤون. يبحثون عن كل جديد وفي كل مكان ليتعلموا منه. ويعتقدون جازمين أن الامبريالية بات من الممكن هزيمتها ليس بالشعارات والأفكار وحدها، بل بالعمل والممارسة والمعاملة الحسنة بشكل رئيسي. هل تراهم يطبقون حديث رسولنا الكريم محمد (ص): «إنما الدين المعاملة»؟
بقدر ما نحن غائبون عن الصين، فالصين غائبة عنا نحن المسلمين والعرب خصوصا. وعندما كنت أمزح معهم أحيانا أو أقول لهم بجد: أين أنتم من «الجزيرة» والإعلام العربي والمطاعم اللبنانية؟! كانوا يستغربون وكأنني أحدثهم عن عالم آخر أو كوكب آخر!
كنت أقول لهم: إياكم وتجاهل الإعلام، لاسيما الإعلام العربي، لكنني في الوقت نفسه كنت أخاف في قرارة نفسي فيما إذا كان إعلامنا في البلاد الإسلامية والعربية سيعرف الصين حقا ويعرف التعامل معها أم سيخسر المعركة كما هي نتائج غالبية معاركه؟! فبقدر ما نحن غارقون في أمنياتنا «وغيبياتنا» بقدر ما هم (الصينيون) يبدون عزيمة راسخة في بلورة سياسة عقلانية رشيدة، لذلك صرت أتخوف بعض الشيء فيما إذا دخل إعلامنا ومطاعمنا عليهم، هل سنضيف إليهم شيئا يُحسن من توازناتهم الداخلية وتوازن العالم معهم أم سنفسد عليهم بعض هدوئهم وتوازنهم وراحة بالهم؟
إنها على أية حال دولة ذات شأن وثقل كبيرين في العالم نفتقد حضورها القوي على المسرح العالمي بقدر ما نحن بحاجة إلى أن نتعلم منها الصبر والنفس الطويل والعمل بصمت من أجل توازن الذات، والتوازن مع العالم
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 654 - الأحد 20 يونيو 2004م الموافق 02 جمادى الأولى 1425هـ