العدد 654 - الأحد 20 يونيو 2004م الموافق 02 جمادى الأولى 1425هـ

مرة أخرى... تنشيط المجتمع المدني!

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

من العبارات التي تكررت في بيانات ووثائق مجموعة الدول الثماني لإصلاح الشرق الأوسط عبارة «تنشيط المجتمع المدني»، وهي عبارة أصبحت تتكرر مئات المرات بل آلافها يوميا، ومضى على تكرارها في منطقة الشرق الأوسط اكثر من عشر سنوات، ويرددها البعض وكأنها الفانوس السحري الذي من خلاله يمكن نشر الديمقراطية في هذا البلد أو ذاك. ولكن، وبعد اكثر من 10 سنوات من تكرار العباراة، ما مدلولات هذا المفهوم؟

بداية فإن جذور المفهوم يجب ان تكون واضحة ببعديه القديم والجديد. فالفكر السياسي اليوناني القديم أشار إلى المفهوم، كما أشار إليه الفكر الاسلامي في العصر الوسيط، وأعيد إحياء المفهوم في أميركا وأوروبا في نهاية السبعينات، وانتشر كفكرة أولية في منطقتنا في التسعينات. ولو رجعنا إلى الفيلسوف الشيخ ميثم البحراني الذي توفي قبل سبعة قرون فإننا نجده يفصّل ما كان يطرحه علماء الاسلام آنذاك، إذ يقول: إن الانسان محاط بثلاث دوائر: الدائرة الفردية (السياسة الأخلاقية، التي تنظمها أحكام العبادات بصورة أساسية)، والدائرة العائلية (السياسة المنزلية وهي علاقة الفرد بعائلته)، ودائرة المجتمع (وهي علاقة الإنسان مع أخيه الانسان الذي يعيش معه في منطقة معينة والتي تنظمها احكام المعاملات).

في العصر الحديث، يتناول الغربيون المفهوم نفسه مع تطوير لبعض جوانبه. فانسان العصر الحديث محاط بدائرتين أخريين بالاضافة إلى ما ذكر أعلاه، وهما دائرة «الدولة»، ودائرة «السوق». علماء الاسلام كانوا ينظرون إلى الدولة أو (السلطان) والسوق كجزئين لا ينفصلان عن المجتمع، ولكن واقعنا المعاصر يقول إن الدولة دائرة انفردت عن الدوائر الأخرى، وخلال المئة عام الماضية أصبحت الدولة في كثير من البلدان هي كل شيء، وامتصت جميع الخيرات والقدرات وأصبحت تتحكم في المجتمع (دولة دكتاتورية)، وفي العائلة (دولة دكتاتورية علمانية) ،وفي الفرد (دولة دكتاتورية علمانية شمولية)، وفي السوق (دولة دكتاتورية علمانية شمولية اشتراكية).

تنشيط المجتمع المدني، كما ينظر اليه الغربيون، هو تحرير المجتمع من سيطرة الدولة الدكتاتورية. ومن خلال تقوية المجتمع يمكن نشر فكرة أن الدولة يجب أن تنبع من المجتمع وأن الحكومة (التي تمثل الدولة) تنتخب من قبل المجتمع، تحاسب من قبل ممثلي المجتمع، وتنفذ ما يشرعه ممثلو المجتمع. هذه الديمقراطية السياسية يجب ايضا أن ترتبط بالانفتاح الاقتصادي (اقتصاد السوق الذي يتسم بالشفافية ومكافحة الفساد ومنع الاحتكار وضمان التجارة الحرة وتفعيل حكم القانون، الخ).

مباشرة وبعد أن تبنت الدول الغربية تنشيط المجتمع المدني، وجهت عددا من مؤسساتها لمساندة الجمعيات الأهلية في الشرق الأوسط. وفي مطلع التسعينات كان الاتحاد السوفياتي قد انهار، والنخبة اليسارية العربية كانت تبحث عن طريق آخر لإعادة تنشيط نفسها، فكان أمامها خيار غربي يتحدث عن المجتمع المدني. لم تضع النخبة اليسارية وقتها، وفي خلال فترة وجيزة استحوذت على غالبية الدعم والمساندة التي تقدمها المؤسسات الغربية لتنشيط المجتمع المدني. الليبراليون كانوا الأقلية (مقارنة مع اليساريين)، بينما كان الاسلاميون يتحاورون فيما بينهم بشأن موافقتهم الفكرية - من عدمها - على مفهوم تنشيط المجتمع المدني والوسائل التي يمكن الاعتماد عليها في ذلك. ولكن سرعان ما اقتنع جزء كبير من الاسلاميين بتنشيط المجتمع المدني (بمن فيهم مسئولون كبار في ايران، وقيادات للحركة الاسلامية في مصر)، وسرعان ما نشط الاسلاميون واستطاعوا - بجدارة - احياء مؤسسات المجتمع المدني والنقابات وكل ما يتصل بالنشاطات الطوعية التي كانوا يسيطرون عليها أساسا (مثل بيوت الزكاة والصناديق الخيرية ومساندة المحتاجين ودعم المشروعات الجماعية).

انتقل الأمر بعد عشر سنوات إلى خلاف بين الحكومات العربية والمؤسسات الغربية وسارعت بعض الحكومات لمعاقبة مؤسسات المجتمع المدني (مصر مثالا)، بينما سعت بعض النخب العلمانية إلى الدعوة إلى منع الاسلاميين من دخول هذا المجال الحيوي. الغربيون من جانبهم استمروا في الحديث النظري (الجميل جدا)، ولكن على الأرض تشتتت جهودهم وأصبحت برامج التنشيط غير واضحة وغير استراتيجية، ربما لخوف الغرب من الاسلاميين الذين أبدعوا في تنشيط أنفسهم في كل المجالات، بما فيها مؤسسات المجتمع المدني.

في ظل هذه الأجواء تطل علينا وثيقة مجموعة الثماني لتتحدث عن الشعار نفسه «تنشيط المجتمع المدني» ولكن من دون أي تنشيط لمحتوى الشعار، وما اذا كان ذلك يعني قبولهم بالاسلاميين عندما ينشطون في المجتمع المدني أم لا

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 654 - الأحد 20 يونيو 2004م الموافق 02 جمادى الأولى 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً