نشرت صحيفة «الحياة» في عددها (15050) الصادر يوم الجمعة الموافق 11 يونيو/ حزيران 2004 نص الوثيقة الداعية إلى «شراكة من أجل التقدم ومستقبل مشترك مع منطقة الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا»، وتأتي في وقت تزايدت فيه الشكوك في إمكان صنع مستقبل هذه المنطقة المنسية من العالم من خطط التنمية البشرية والتنمية الصناعية والشراكة الإنتاجية والبحثية، غير أنها طبعا غير منسية من خطط السياسة الداعية إلى الهيمنة والتهميش منذ بداية القرن العشرين حتى العتبات الأولى لقرننا الحالي، قرن العقل، القرن الحادي والعشرين.
وتبدأ الوثيقة بنص خطابي مدبلج مؤدلج مهودج (مهودج أي مرفوع ليظهر جليا بين الناس وليس اخفاءه كما تخفى النساء في الهودج، وفضلنا استخدام هذه المفردة على مفردة مشيع، كون التشييع هو في الأصل رفع الميت، وإذ إننا لا نعتبر الوثيقة ميتة منذ ولادتها)، بفعل ناقص التعريف «نرحب» وهو يعود إلى «الدول الثماني» دون الاعضاء المدعوين إلى ذلك الاجتماع. وهذا الترحيب ليس ترحيبا شرق أوسطي ولا هو ترحيب عربي، بل هو في أساسه ترحيب مبهم عن «رغبة» يدعى أن «زعماء» و«أشخاصا» لم تحدد أسماؤهم و«استجابة لاولويات الاصلاح التي حددتها المنطقة» وتلك «التي حددتها الجامعة العربية» قد طور المجتمعون «في ذلك الاجتماع» «خطة واسعة من الفرص التي يمكن للحكومات ومؤسسات الاعمال والمجتمع المدني أن تستمد منها الدعم كما يختار» (وهل في الامكان الاختيار حقا؟) وأن هذه «الخطة» سترتكز على «عملية دينامية تستند على الاحترام المتبادل»، وتقوم «على ما تحقق فعلا من تفاعل ثنائي وجماعي قوي في المنطقة». وفي نية «الخطة» «أن تتوسع وتتطور بمرور الوقت».
ما أكثر المنابر!
وهي تكتفي في الوقت الراهن «بروح الشراكة» ومن أجل دعم «جهود الاصلاح»، فقد قرروا التزامهم بثمانية بنود نوردها ونشرح ما جاء فيها على المنوال الآتي:
أولا: إنشاء «منبر للمستقبل» (وما أكثر المنابر في العالم العربي، فهل نحن بحاجة إلى منبر آخر؟ هل يعلم السادة الافاضل عدد المنابر في العالم العربي ناهيك عن المنابر في العالم الشرق الأوسطي المبهم؟) مهمته الاساسية «توفير إطار وزاري» من اجل الحوار والتفاعل في الأمور ذات العلاقة الوثيقة بـ «الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي»، وذلك «بروح» مفعمة بحب «الاحترام المتبادل»؛ السؤال هنا: هل نحن شعوب لا نكن لبعضنا بعضا الاحترام؟ وإذا كان الجواب بنعم، ما السبب في هذا؟ وهل طرح المجتمعون أسئلة مثل هذه؟ وستكون مهمة المنبر هذا «جمع وزراء الخارجية والاقتصاد وغيرهما» «بشكل منتظم» وتوفير «وسيلة» من دون وسائل (وهذا ما يعجز العقل على تصديقه، وسيلة واحدة فقط!) لكي تتوسع المشاركة «في دعم جهود الاصلاح في المنطقة»، وهل دول «مجموعة الثماني» ليست بحاجة إلى إصلاح؟ نتساءل فقط؛ وهذا الاصلاح المنشود يتجه إلى «تعزيز الديمقراطية والمشاركة المدنية وحكم القانون وحقوق الانسان واقتصاد السوق المفتوح». هذه أمور يدعي كثير من إنتلجنسيا المجموعة الثماني مفقودة عندهم وإن كانت بنسب متفاوته فيها. ثم إلى جانب ذلك تدعو إلى «حوارات موازية» تبرز الآراء الداعية إلى الاصلاح من قبل المجتمع لتتفاعل مع «الحكومات العضوة في «المنبر» على صعيد التنفيذ». كما تدعو إلى التبادل الثقافي (وهذا موجود من عصور سحيقة من التاريخ). وسيتم افتتاح المنبر في خريف 2004). (لا نعلم أي خريف هو: عربي أميركي أم أوروبي؟).
ثانيا: «اطلاق مبادرة» مهمتها الاساسية «تمويل مشروعات صغيرة» وخصوصا تلك الخاصة بالمرأة (ولماذا لا تكون مشروعات كبيرة تستوعب أكثر من ألف من البشر نساء ورجالا وتنتج ما تحتاج إليه وما يحتاج إليه غيرها من المجتمعات؟ للتذكير جميع مشروعاتنا الكبيرة في الوطن العربي هي بمثابة مماثل صغير لمشروعات كبيرة في الدول الثماني). وسيرافق ذلك «إنشاء» مؤسسة استشارية تتولى ادارتها «المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء» التابعة «للبنك الدولي» (هناك في الوطن العربي مؤسسات من هذا النوع كثيرة لانعلم مدى النجاح الذي حققته حتى الآن، إلا في حالات قليلة). كما تدعو إلى إنشاء «مركز تدريب افضل اساليب العمل»، والسؤال: لماذا لا نشجع مراكز التدريب الحالية ونزودها بالخبراء بدل إنشاء مراكز جديدة؟ كما سيتم اطلاق «برامج تجريبية»، «لمساعدة اصحاب اعمال حرة صغار على أن يفتحوا ويوسعوا اعمالهم ويخلقوا وظائف جديدة». وتتعهد الدول الثماني مع دول المنطقة وحكوماتها على مساعدة «اكثر من مليونين من اصحاب الاعمال الحرة الصغار المحتملين على التخلص من الفقر عبر قروض تمويل مشروعات صغيرة على مدى خمس سنوات».
ثالثا: بذل الجهود في سبيل تعليم ما قدره عشرون مليون إنسان القراءة والكتابة بحلول العام 2015 من أجل خفض «معدل الامية إلى النصف». والقيام بتدريب المعلمين على توظيف التقنية الحديثة التي «من ضمنها التعلم عبر الانترنت»، والعمل على تدريب مئة ألف معلم بحلول العام 2009 وتعزيز برنامج اليونسكو (التعليم للجميع) وإنشاء شبكة إقليمية «لتقاسم الخبرة» وأفضل طرق العمل، والاهتمام بفتح المجال لـ «فرص التعليم للفتيات والنساء» ودعم «برامج خارج نظام التعليم الرسمي».
أميركا لا تحكمها امرأة!
رابعا: الدعم المتواصل «للاعمال ومشروعات الاعمال الحرة وبرامج التدريب المهني، لمساعدة الشباب، وخصوصا النساء» وذلك من أجل اتاحة الفرص لتوظيفهم عن طريق تكثيف الجهود من أجل «تدريب عملي في مجال الاعمال الحرة لـ 250 ألفا من الشباب» وتقديم العون والرعاية لـ «المديرين البارزين» و«خصوصا النساء» (العجب أن أميركا لم تحكمها امرأة حتى الآن وقد تعجز في الوصول إلى البيت الأبيض حتى العام 3003، كما أن ألمانيا عاجزة وفرنسا عاجزة وكندا عاجزة واليابان عاجزة وإيطاليا التي كادت بنت من بناتها أن تتسلم السلطة في أعرق بلد ديمقراطي عاجزة، وروسيا التي فعلت ما فعلت عاجزة والصين عاجزة، فقط بريطانيا بعد أن سلبت من عظمتها وحدها أوصلت امرأة إلى رقم 10 وكانت امرأة حديدا قلبا وقالبا). وقد قالوا قديما: «فاقد الشيء لا يعطيه» (من فضلكم أقرأوا تاريخنا وخصوصا تاريخ نسائنا) زوجة نبينا العظيم محمد (ص) بل زوجات كل أنبيائنا العظام فيما عدى سيدنا عيسى المسيح لكونه لم يتزوج، كن ذات شأن ليس في التجارة فقط بل مواطن قيادية أخرى أيضا؛ كل ما تحتاج إليه نساؤنا حقا هو منحهن الثقة في القدرة على العمل والتعلم. و«زيادة فرص التدريب للشبان والنساء في المنطقة» و«تشجيع الزيارات المتبادلة للمهندسين». (البحرين إلى جانب المغرب عرضتا المساعدة في هذا الجانب).
خامسا: بتكاثف الجهود «مع شركاء راغبين في المنطقة (ما العمل مع غير الراغبين؟) سيتم «انشاء» حوار لدعم الديمقراطية» وتقاسم «المعلومات والدروس المستقاة من برامج الديمقراطية في المنطقة» (ما موقع الدروس المستقاة من الدول الثماني هنا، وخصوصا في الشأن الديمقراطي؟ أليس لها أدنى أهمية؟)، وتأكيد «مراعاة أولوية الاهتمامات المحلية وخصوصيات كل من الدول» وتعزيز «البرامج الديمقراطية الموجودة» ومساندة المبادرات الداعية «إلى اطلاق برامج جديدة»، وإيجاد فرص تطوير «الفعاليات المشتركة» وخصوصا «مشروعات التوأمة (بين المدن) والوقوف خلف المؤسسات والعمليات الديمقراطية، بالاضافة إلى تعزيز القدرة» وتحفيز «تبادل الزيارات» بين العاملين «على مشروعات المنطقة». هذا البند سترعاه كل من «تركيا واليمن وإيطاليا» ويقع تحت عنوان «الحوار لدعم الديمقراطية» (أين دول الديمقراطيات العريقة من هذه الرعاية؟ ولماذا يترك هذا الامر البالغ الأهمية لدول ليس لها من تاريخ ديمقراطي يذكر في مجرى التاريخ؟ أين بريطانيا مثلا؟ بل أين أميركا من هذا كله؟) الأمر هنا يشوبه الشك والريبة!
سادسا: تعتزم هذه الدول «إنشاء هيئة تنمية القطاع الخاص للشرق الاوسط الأوسع وشمال إفريقيا»، وتقع تحت ادارة «هيئة التمويل الدولية لدعم جهود المنطقة لتحسين بيئة الاعمال الخاصة والاستثمارات وتوسيع خيارات التمويل للمشروعات الصغيرة والمتوسطة في المنطقة» ومن خلال الوسائل المتاحة سيتم «توحيد الهيئتين في المنطقة التابعتين لهيئة التمويل الدولية» و«زيادة التمويل» ليصل إلى مئة مليون (لم يذكر نوع العملة دولار أم يورو!) إلى جانب «توسيع الصلاحية الجغرافية» ليغطيها هذا التمويل المقدم من الدول الثماني، وبلدان في المنطقة، وغيرها من المانحين» (عجبا! تستطيع دولة واحدة فقط من هذه الدول تقديم دعم مالي يضاعف هذا المبلغ عدد من المرات، وللتذكير فقط العراق عليه ديون متراكمة تبلغ عشرين مليارا ولن أتحدث عن لبنان ومصر والمغرب والجزائر)، والاستناد إلى «ما لدى هيئة التمويل الدولية من الخبرة والتجربة والمقدرة التمويلية» وتشجيعها على زيادة «التركيز في استثماراتها في المنطقة على المشروعات الصغيرة والمتوسطة» وتوفير «التشكيلة المناسبة من المساعدات التكنولوجية والمالية». هل نشمّ هنا نية لجعلنا دولا صغار لا نرتقي إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى الثماني؟
شبكة «صناديق»
سابعا: بناء «شبكة اقليمية من الصناديق المالية» تهدف إلى «تحسين التنسيق بين البرامج والموارد المتوافرة» وتوفير «الدعم التقني» وذلك «لتوفير القدرة المؤسساتية وتحسين مناخات الاستثمار» ولـ «استكشاف امكانات التجميع الطوعي للموارد» وذلك بقية المساهمة في «تمويل الاعمال الصغيرة والمتوسطة والمشروعات الكبيرة العابرة للحدود» (لنقف قليلا أمام هذه الفقرة الاخيرة ونفكر فيها مليا وخصوصا «المشروعات الكبيرة العابرة للحدود). والمساهمة مع «شركاء من المنطقة» (من هم هؤلاء الشركاء؟ هل هم من جميع هذه الدول أم هناك شركاء تمت الموافقة عليهم مسبقا ولا يتعدى تعدادهم أصابع اليد؟) مهمتهم الاساسية تتمثل في الآتي: «تحديد العوائق أمام الاستثمار» بمعنى تشخيص الواقع الاستثماري ومن ثم «تقديم توصيات عملية» وتحديد «الفوائد المحتملة» من دون الخسائر المحتملة. و«العمل مع دول المنطقة المهتمة (تلك غير المهتمة أكان إيجابا أم سلبا فإن قطار التنمية والديمقراطية سيفوتها وستتلاشى!) بمسيرة الاصلاح ودعم جهود الاصلاح» وفي النهاية «مراجعة تقدم الاصلاح في المنطقة وتقديم التقارير بشأنه».
هذه جملة ما أراد رؤساء دول الثماني قوله بالنسبة إلى منطقتنا (هنا أشدد بأني أعني المنطقة العربية تحديدا من الخليج إلى المحيط)، والتي يقع عليها في الواقع الحمل الأكبر من هذه الوثيقة فباقي الدول في المنطقة تتوحد جغرافيا وليس بينها خلافات لا حدودية ولا عشائرية ولا اقتصادية، فتركيا وحدة جغرافية (هناك بعض الحالات العرقية، ولكنها ليست ذات أهمية قصوى في تقدم الديمقراطية أو التجارة فيها إلى جانب ذلك فهي تسعى إلى الانضمام إلى المجموعة الاوروبية).
طبعا هنا وفي الختام نود الاشارة إلى أن هناك رغبات تبشر بالخير في كل الدول العربية بدءا من «اعلان تونس» و«بيان الاسكندرية» و«اعلان المجلس العربي للاعمال» ومقترح «الحسن بن طلال»: «صندوق القرنِ الحادي والعشرين لشرق أوسط كبير»، هذه جميعها تصب في تسريع عملية التنمية والديمقراطية في دولنا العربية لكوننا إذا ما عزمنا حقا قادرون على التغيير فيها من دون الحاجة إلى المساعدات المقترحة. في الوقت ذاته نعي أننا بكل تأكيد لسنا قادرين على تغيير عقليات عنصرية أو عرقية في المنطقة من دون مساعدة الدول الكبرى جميعها من دون تمييز. لذلك ندعوه إلى الضغط على دول تعشش في عقليتها حلقات من العنصرية نشأت في سلسلة التاريخ البشري في غفلة الجهل حتى يمكنها حقيقة القيام بالاصلاح المنشود في أية رقعة في العالم لا نستثني من بينها دولنا العربية. من دون هذا الشرط الانساني الأكبر لا يمكن أن تتحق التنمية وأن ينتصر الانسان على الفقر والجهل والتخلف.
كاتب بحريني
العدد 652 - الجمعة 18 يونيو 2004م الموافق 29 ربيع الثاني 1425هـ