كثيرا ما يراودني هذا السؤال، وأنا أقرأ عن تجربة رئيس وزراء ماليزيا سابقا مهاتير محمد الذي قاد بلاده خلال 20 عاما إلى مصاف الدول المتقدمة: هل بإمكان جلالة الملك أن يقود بمشروعه الإصلاحي البلاد إلى ما وصلت إليه ماليزيا؟ ويأتيني الجواب: نعم، ولمَ لا؟ وخصوصا إذا توافرت الإرادة الجدية من الجميع وعمل الجميع من أجل بناء البحرين، وخصوصا أننا نمتلك موارد اقتصادية لا يمكن الاستهانة بها. جلالة الملك يمتلك طموحا أكبر من ذلك، ولكنه يحتاج إلى فريق عمل قوي وإلى مساعدة كل القوى السياسية في ذلك. لننظر إلى ما فعله مهاتير خلال 20 عاما... لقد جاء هذا الرجل - وهو طبيب أسنان انتقل إلى البرلمان ومن ثم إلى منصب رئاسة الوزراء - إلى دولة زراعية وإلى شعب فقير معدم فأول ما ركّز على الاقتصاد، ومن قبل الاقتصاد على العلم وانتهج أسلوب الشفافية في ذلك.
إذا أردنا نحن في البحرين أن نكون ماليزيا الخليج فيجب أن نركز على العلم. ودعوني أصارحكم لأقول: وزارة التربية هي الوزارة المعنية بالعلم مازالت تفتقر إلى الشفافية في البعثات، في التعيينات، في الوظائف، في انتقاء المديرين... إلخ. وتحتاج إلى مناهج عالية المستوى تعتمد النوعية وليس الكمية... قد تسألني: هل حدث تغيير فيها؟ أقول لك: في العامين الماضيين وبمجيء المشروع الإصلاحي أصبحت أفضل حالا، بتنا نرى أسماء المبتعثين في الصحف، بدلا من الرقم الشخصي، والوزير الحالي مازال يسعى إلى الإصلاح في الوزارة، إلا أن هناك رموزا قديمة في الوزارة مازالت بالعقلية القديمة، وخصوصا في مسائل التوظيف.
وصلتني قبل أيام تظلمات لمدرسات تم استبعادهن من بعثات للماجستير وأتمنى أن يجدن حلا للقضية... المهم هو أننا نحتاج هذا العام إلى طرح كل البعثات في الصحافة بلا استثناء... لن يتطور التعليم وهناك عملية انتقاء واضحة في قبول ومعادلة شهادات الجامعات. قبل أيام ذهبت إلى الوزارة وجلست مع أحد المسئولين الكبار ممن لاشك في إخلاصهم ووطنيتهم، إذ إن الوزارة خلال هذه الأيام ستقوم بمعادلة شهادة المعهد العالي في مصر، إذ هناك أكثر من 80 متضررا من المواطنين من عدم معادلة الشهادة.
المهم... التعليم بدأه مهاتير، وركز عليه، واقتطع 40 في المئة من الدخل العام لأجل التعليم... علّم الناس ولم يهجِّر العقول... احتضن المثقفين والمفكرين، ركز على المستويات الرفيعة من دون عملية انتقاء. نجد ذلك في مشروع ولي العهد في ابتعاثه المتفوقين إلى الخارج من السنّة والشيعة. هذه العقلية يجب أن تسود في بقية الوزارات بالتركيز على العلم، والمنصب يجب أن يكون المعيار فيه الكفاءة وليس الثقة.
مهاتير وضع خطة لعشرين عاما ولم يسمح للفساد أن يأكل ما عمل من أجله، وهذه نقطة جوهرية يجب أن نعتمدها في البحرين؛ إبعاد الوزراء عن التجارة. العملية تكاد تكون عكسية، فالوزراء في البحرين هم أكثر الناس اشتغالا - وليس انشغالا - في الاقتصاد والتجارة، لهذا نجد بعضهم تضخموا كثيرا... واستغلال المنصب من قبل أصحاب النفوذ يؤدي إلى ضياع المال العام ويؤدي إلى تبديد الثروة القومية. السؤال الذي يجب أن يطرح على كل وزير سابق وحالي هو: من أين لك هذا؟ أعرف وزراء قريبين من المشروع الإصلاحي لا يعملون في التجارة، ولكن هناك مسئولين كل واحدٍ منهم يمشي ويجر وراءه عربة من البنايات والأراضي والعقارات.
يجب أن نصحح وضع الوزارات وذلك لا يكون إلا بالمحاسبة والمراقبة. كانت ماليزيا دولة زراعية فقيرة، الآن اذهب إليها، ستجدها قمة في التحديث والتطوير... مهاتير اعتزل السلطة بعد أن بنى الدولة وسلمها إلى عبدالله بدوي. هل تعلمون أن بدوي لا يمتلك بيتا ولا شقة في العاصمة - كما يقول كاتب ماليزي - على رغم أنه تقلد ثلاثة مناصب وزارية سابقا. وهذا ليس خيالا وليس عيبا (لو امتلك)، ولكن العيب أن يدخل السلطة حافيا ويخرج منها مثل قارون. بعض مسئولينا الأفاضل يعملون في كل شيء وهناك منهم من يزاحمون فقراء الناس حتى في بيع السمك وبيع «البربير» و«النخج» و«الباقلاء». نعم، إن ذلك يحدث بل هو حادث. ضحكت وأنا أقرأ خبر تخيير الناس بين العمل في الحكومة أو السجل التجاري. قلت: يا جماعة ابدأوا أولا بالمتنفذين وبالسجلات الذهبية، ومن ثم اذهبوا إلى موظف فقير يعمل براتب 100 دينار وفي كراج يدر عليه كل صباح 40 دينارا. لا أريد أن يكون مسئولونا الأفاضل مثل بدوي، ولكن أتمنى من بعضهم أن يكونوا إصلاحيين أسوة ببعض المسئولين الإصلاحيين ممن لم يدخلوا في التجارة ولم يتورطوا في فساد. الإصلاح يجب أن يبدأ بالوزارات، وكم كنت مسرورا عندما أصبحت وزارة الداخلية في يد إصلاحي... نتمنى أن يعدّل الوزارة وأن يكسب الطائفتين بعيدا عن غول التمييز الذي أكل الوزارات كوزارة الاقتصاد ووزارة الصحة والبلدية والتربية والأوقاف والخارجية والعدل والمؤسسات الأخرى كالشباب والرياضة... كل دول العالم لديها نوادٍ والمنطقة الشمالية بالآلاف المؤلفة بقراها ليس فيها «صندقة» تحشر فيها أبناءها، وفيها مركز صحي واحد وهو «مركز البديع». دخلت إليه مع زوجتي قبل أسبوع، أشفقت على العاملين فيه ولو كنت مكان الدولة لجعلته مركزا بيطريا فربما يكون أفضل حالا. حتى مركز جدحفص الصحي، أتمنى من وزارة الصحة أن تنظر إلى مأسويته، فالموظفون فيه ليسوا جرادا بلا إحساس، المركز يحتاج إلى تطوير وتقنيات.
لقد بدأنا قبل ماليزيا وقبل دبي... تأخرنا، لكن بإمكاننا التغيير. خلال عامين من المشروع الإصلاحي بدأت حرية الصحافة، بدأت النقابات، بدأنا نشعر بأننا بدأنا نمشي «صح»، ولكن العملية تحتاج إلى جهد وبذل وتضحية، إلى نقد موضوعي وليس مجاملات، لذلك يجب على الإصلاحيين أن يبدأوا العمل
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 652 - الجمعة 18 يونيو 2004م الموافق 29 ربيع الثاني 1425هـ