هل يمكن أن نتصور مشهد محاكمة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بتهم الكذب والخداع والغش والاحتيال على القانون واختلاق الأزمات للتغطية على الحروب؟ المشهد من الصعب تصوره لأن العدالة الأميركية لم تتطور بعد إلى درجة تسمح لرئيس في السلطة الآن بمحاسبة رئيس سابق. فالعدالة في الولايات المتحدة متقدمة ولكنها في هذا الإطار لم تشهد سابقا مثل هذا الاحتمال المتخيل. فالرئيس لا يحاكم الرئيس وأحيانا يتردد في انتقاده خوفا من أن تتحول السابقة إلى لاحقة وتصبح من الأعراف ما يعني أن كل رئيس يمتلك صلاحيات تعطيه الحق في محاكمة سلفه ومعاقبته والاقتصاص منه.
محاكمة بوش غير واردة في الأمد المنظور لأن للعدالة الأميركية حدودها، فهي قد تسمح أو تتقبل فوز رئيس بالانتخابات من أصول إفريقية ولكنها تتخوف من فتح باب محاكمة الرؤساء والدخول في مغامرة سياسية غير محسوبة في عواقبها وتداعياتها.
الكلام عن محاكمة بوش غير وارد إلا أن مجرد ظهور وجهات نظر تطالب به يعتبر خطوة مهمة في سياق التعامل الأميركي مع المحرمات. وهذا الرأي الذي تداولته تلك الأوساط الإعلامية القريبة من أعضاء في الكونغرس يؤشر إلى نمو قوة نيابية تضغط باتجاه تطوير تيار يدعو للمحاسبة وفتح الملفات وكشف الأوراق المستورة من دون ضرورة للمحاكمة. وهذا ما يتجه مجلس الشيوخ إلى تقريره في 4مارس/آذار المقبل. ودعوة رئيس لجنة الشئون القضائية في المجلس باتريك ليهي لإنشاء لجنة تحقيق لمعرفة الحقيقة تعتبر إضاءة على الموضوع الحساس.
موضوع المحاسبة (المكاشفة والشفافية) أشار إليه مداورة الرئيس باراك أوباما حين لمح في خطابه أمام الكونغرس إلى وجود أخطاء وصعوبات وثغرات وعقبات أكثر من المتوقع. كذلك عاد وذكر الملاحظات نفسها حين ألقى خطابه بشأن السياسة الخارجية وخطته المالية لإنقاذ الاقتصاد الأميركي من الانهيار. فأوباما قارب إلى نطق الحقيقة وكشف المستور حين أشار في خطاباته الثلاثة الأخيرة إلى وجود نوع من الخداع بشأن الأزمة النقدية والموازنات وأجندات الحروب وكلفتها الحقيقية. جاء كلام أوباما معطوفا على بيانات رسمية بشأن محاسبة جنرالات في جيش الاحتلال الأميركي بتهم الفساد والرشوة والسرقة. فهناك مبالغ تقدر بأكثر من 180 مليارا من الدولارات اختفت وهناك أموال أخذت من حسابات وودائع دافع الضرائب الأميركي تحت غطاء إعادة إعمار العراق نهبت وتم توزيعها أو تقاسمها مع الزمرة المتعاملة مع الاحتلال في بلاد الرافدين.
كل هذه التلميحات تؤشر إلى حالات من التوتر أخذت تؤرق العلاقات بين إدارة أوباما والأجهزة المولجة أيام بوش في إدارة اقتصاد الحرب في العراق وأفغانستان. والتلميحات لا تطلق عفويا في الهواء لو لم يكن هناك مستندات تدل على وجود «عصابة» كانت تستغل الحروب لتكوين ثروات خاصة على حساب مصلحة دافع الضرائب واحتياط النقد وودائع صناديق التوفير وضمانات الشيخوخة والتقاعد.
مسألة الضريبة مهمة في التاريخ الأميركي وهي تعتبر من المقدسات التي لا يجوز التلاعب بها لأنها تهدد المؤسسات بالانهيار. واستخدام الاحتياطات المجمعة من الضرائب من طريق الاحتيال يعتبر جريمة لا تغتفر في الذهنية الشعبية الأميركية ولا يمكن أن تمرّ من دون حساب أو عقاب.
دفاع سلبي واستباقي
إشارات أوباما إلى وجود التواءات واختلاسات حاولت إثارة الانتباه إلى نقطة مهمة وهي أن الأزمة كبيرة وفاقت كل التوقعات لأن هناك «عصابة» كانت في الإدارة السابقة تكذب على دافع الضرائب وتزوّر الأرقام للتغطية على الحقيقة. فالمشكلة عويصة وتحتاج إلى وقت لاحتواء سلبياتها التي يرجح أن تظهر تباعا في الأفق المنظور. أوباما في إشاراته السريعة حاول الإيحاء بوجود أزمة تفوق كل التصورات وبالتالي فإن التوقعات بشأن السيطرة عليها تتطلب وحدة داخلية وقدرة على تحملها. كذلك أراد توجيه ضربة استباقية حتى لا يتحمل في المستقبل مسئولية كارثة تعود أسبابها إلى العهد البوشي السابق.
كلام أوباما عن الشفافية والمكاشفة المعطوف على تصريحات من الكونغرس بشأن محاسبة الجنرالات بتهم الفساد والتبذير كلها يمكن أن تتجمع في ملفات تحتوي على أوراق ومستندات تثير تكهنات عن تورط إدارة بوش بها. ولكن للعدالة الأميركية حدودها وخصوصا في موضوع محاكمة رئيس لرئيس. فهذه النقطة تعتبر جديدة في أصول المحاكم وهي لا تقل خطورة عن تقبل الجمهور الناخب التصويت لمترشح إلى منصب الرئاسة من الأقليات الملونة.
هل يفعلها أوباما ويسجل سابقة جديدة في التاريخ الأميركي تضاف إلى سابقة انتخابه رئيسا؟ الاحتمال حتى الآن مستبعد بسبب وجود اعتراضات محكومة بالتقاليد والأعراف لا تسمح للعدالة بتجاوز حدودها القانونية التي تضمن «حرمة الرئيس» حتى لو أصبح خارج السلطة. القانون الأميركي يسمح بفتح تحقيق ويعطي صلاحية للكونغرس بطرح أسئلة على الرئيس كما حصل مع بيل كلينتون بسبب فضيحة علاقته مع الموظفة في البيت الأبيض. فالمجلس النيابي استدعى الرئيس كلينتون لا بسبب علاقته وإنما لأنه كذب وأنكر التهمة ثم عاد واعترف بها. والمحاسبة تركزت على مسألة الخداع والغش وحين أوضح كلينتون الملابسات ببلاغته المعهودة سحبت القضية وتم تجاوزها احتراما للمقام وتقديرا للمنصب وخوفا من أن تتحول السابقة إلى عادة يأخذ بها الخصوم في كل الظروف والحالات.
الأمر نفسه يمكن أن يحصل مع بوش إذا قرر أوباما السيّر في حقل من الألغام. فالقانون لا يمنع ولكن العدالة في النهاية محكومة بسقف قضائي يضع الحدود التي تضبط الانفعال وتمنع من تحويل السلطة إلى قوة تنفيذية تستخدم للثأر والانتقام.
الإشارات السلبية والتلميحات النقدية والتسريبات الصحافية بشأن سرقات الجنرالات في العراق وأفغانستان واحتمال دعوتهم للمحاسبة تشكل في مجموعها مقدمات نظرية تؤشر إلى استعداد الإدارة للمكاشفة وليس كشف المستور في اعتبار أن تغيير السياسة يعتبر في منطق العدالة الأميركية خطوات كافية للتعديل وتدوير القضايا باتجاه مخالف للعهد السابق.
حتى الآن يبدو أوباما غير مستعد للمغامرة القضائية ولكنه أظهر استعداده للتغيير في أكثر من ملف سواء على مستوى التعامل مع الأزمة النقدية في الداخل أو على مستوى التعاطي مع الأزمات السياسية في الخارج. وفي حال نجح أوباما في تغيير التوجهات تحت سقف ضمان المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في العالم تكون الإدارة الحالية كسبت معركتها في استرجاع روح العدالة الكبرى من دون حاجة إلى وضع بوش في قفص الاتهام ومحاكمته بتهم الكذب والغش والخداع وتغطية السرقات وافتعال الأزمات.
مشهد محاكمة بوش غير متوقع في الشروط الحالية التي توفرها العدالة الأميركية. ولكن احتمال محاسبة الإدارة السابقة على أفعالها وأعمالها مسألة مرجحة لكونها تعتبر خطوة للدفاع السلبي عن احتمال تعثر طموحات الإدارة الحالية في المستقبل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2367 - الجمعة 27 فبراير 2009م الموافق 02 ربيع الاول 1430هـ