الأسئلة المذعورة التي طرحها المخلصون في مطلع القرن الماضي لم تجد الأجوبة الواضحة للرد على القلق من المستقبل والخجل من الماضي. فتلك الأسئلة انطلقت من الخوف. والخوف عادة يعطل من إمكانات القراءة الدقيقة للتحولات والعوامل الموضوعية التي تضغط باتجاهات غير عقلانية. فالأجوبة في معظمها غيّبت الزمن من المعادلة، ونظرت إلى الحاضر بعيون حائرة لا تعرف كيف تفصل السبب عن المسبب أو تغلب العلة على المعلول. كانت الأجوبة في معظمها بسيطة وأحيانا ساذجة تسيطر عليها الرغبة في التطور من دون وعي للعناصر التاريخية التي تراكمت وتشكلت لتطيح بحضارة رائدة وقائدة في مختلف الحقول.
الدهشة كانت هي المسيطرة على الإجابات، ومن خلال تلك الدهشة لجأت الكتابات إلى المقارنة بين العالم الإسلامي والعالم الأوروبي، وجاءت بعض الأجوبة لتقول إن الغرب طبق الإسلام من دون مسلمين بينما تخلّى العرب عن الإسلام وهم من المسلمين.
أجوبة كثيرة كهذا الجواب نقرأ ما يحاكيها في كتب أولئك المخلصين الذين اجتهدوا في زمانهم للرد على السؤال المذعور: لماذا تخلف العرب وتقدم الغرب؟ فكر المقارنة لعب دورا في احباط محاولات التقدم أو هو على الأقل وبسبب نزعة الدهشة المسيطرة عليه أسهم في انتاج مقولات من نوع «اللحاق بالغرب» أو «تقليده»، معتبرا أن تلك المقولات كافية لإحداث النقلة النوعية والتقدم إلى مصاف الأمم «الراقية».
مشكلة فكر المقارنة انه عقد المقارنة من دون وعي منه بأهمية التفاوت الزمني (الفجوة الزمنية) بين مثالين أو واقعين. فاسقاط التاريخ في تلك المقارنات الفكرية أحدث حالات من الغياب الزمني (العقلي)، وأنتج وصفات من الحلول التي يقترحها عادة الطبيب لمريضه. بينما المشكلة ليست في المريض فقط وإنما في الطبيب أيضا.
المقارنة نفسها كانت خاطئة. إذ كيف يمكن عقد مقارنة بين حالتين مختلفتين من دون تحديد أسباب الاختلاف وعوامله. فالمقارنة عادة تبدأ من النتائج بينما المطلوب البدء من الأسباب قبل التوصل إلى فهم اختلاف النتائج.
الأسئلة المذعورة أنتجت أجوبة مذعورة تعوزها الدقة في القراءة والربط بين الأسباب والنتائج وأخيرا التوصل إلى وعي تاريخي يفهم معنى «الفجوة الزمنية» بين التقدم والتخلف. وبسبب هذا القصور الذهني نهض الفكر العربي (الإسلامي) المعاصر على قواعد خاطئة، وانتهى إلى قراءات خاطئة زادت من طين الاحباط والهزيمة بلة.
وبسبب هذا القلق (الذعر) تقدم المفكرون الأوروبيون للإجابة عن تلك الأسئلة بروح علمية - واقعية تقرأ التاريخ والجغرافيا وعوامل التطور موضوعيا وذاتيا من دون عقد نقص ودونية.
القراءة الأوروبية بهذا المعنى أفضل من الكثير من القراءات العربية (الإسلامية) على رغم نزوع بعضها إلى نوع من العنصرية والشوفينية وعقدة التفوق. فهذه السلبيات لا تنتقص من إيجابيات تلك المحاولات المنهجية في كشف ما يسمى الخلل التاريخي الذي انتهى إلى نوع من التفاوت الاجتماعي بين الدائرتين: الأوروبية والإسلامية.
تلقي تلك القراءات الضوء على جوانب من الأزمة. هناك من قرأ التخلف بصفته أحد نتاجات فكرة الدولة في المنطقة العربية - الإسلامية. فالدولة ظلت أسيرة البداوة وفي أحسن حالاتها خلطت الفكرة بين الدولة والبداوة وبالتالي كانت الفكرة دائما عرضة للتقلب، فالجانب الأول (الدولة) يدفع نحو الاستقرار والنمو والتطور المتراكم، والجانب الثاني (البداوة) يدفع نحو الاضطراب والرحيل والانتقال ومنع التراكم الذي هو أساس التطور. وبسبب نزوع الدولة نحو البداوة أو نزوع البداوة نحو تأسيس الدولة تعطلت إمكانات احتواء الاضطراب والفوضى الناجمين أحيانا عن تنازع العصبية أو ضعفها أو نمو عصبية منافسة. وأحيانا أخرى كانت الدولة تنهار تلقائيا لعوامل انقسامية داخلية تكونت بسبب النمو السكاني وتفكك العصب الأول وعدم قدرته على السيطرة أو تلبية حاجات السكان. هذا النوع من الدولة عطل إمكانات التراكم وبالتالي التطور فكانت الدولة لا ترث سابقتها بقدر ما تنهض الدولة الجديدة على حطام القديمة وهكذا دواليك.
هذا جانب من القراءات. وهناك قراءة أخرى تركز على مفهوم الاقتصاد عند الدولة العربية (الإسلامية) البدوية. وتشير تلك الدراسات إلى وجود خلل بنيوي - اجتماعي في مفهوم الانتاج. فالانتاج هو الغزو والغزو يعني الاعتماد على الغنيمة لا العمل. وبالتالي أدى اقتصاد الغزو إلى قيام أنظمة رعوية - تجارية تحتقر مفهوم العمل (المهنة والحرفة)، وتميل إلى القوة في تحقيق الكسب. وأدى هذا النوع من الاقتصاد السياسي (الغزو) إلى تشكيل أنظمة تقوم على التجارة لا الانتاج. وبالتالي أحدث هذا الاتجاه فجوة في التراكم فنهضت معادلة تجارة - مال - تجارة وأحيانا مال - تجارة - مال أساسا لقيام اقتصاد الدولة الذي اعتمد على القطاع العام مصدرا أساسيا للثروة. وهذا النوع من نمط الانتاج السياسي أسهم في تجويف الدولة العربية (البدوية) من الانتاج الذي يعتمد أساسا على الاستقرار والتراكم والتطور المتوارث الذي يحترم العمل ولا يحتقر المهنة أو الحرفة.
جانب آخر تطرقت إليه القراءات الأوروبية لدراسة أسباب تقدم الغرب وتراجع العرب وهو يتعلق بنظام التوريث السياسي أو المالي أو العقاري. وتقول تلك الدراسات إن نظام التوريث عند العرب يتصف بالعدالة والمساواة إلى حد التطرف. وهذا التطرف قائم على فكرة التقسيم المتساوي الأفقي بين الورثة، الأمر الذي أدى مع الزمن إلى تفكيك الملكيات الوراثية وتبديد الثروات المالية ومنع الرأسمال المالي - العقاري من التوسع والتراكم. فالتفكيك المتوارث أسهم في إفقار المجتمع مع الأجيال، وأسهم في تشكيل طبقة مالية - عقارية لفترة زمنية تحل مكانها طبقة أخرى لا صلة لها بالأولى. وأدى هذا الانقطاع الزمني بين كتلة وأخرى إلى نمو عداوات سياسية أسهمت في إثارة القلق والاضطراب، ودفعت دائما نحو الانقلاب على الدولة أو انقلاب الدولة على المجتمع.
وتطرقت الدراسات أيضا إلى نظام الملل والنحل في الإسلام وهو نظام متقدم وراقٍ في عدالته واعترافه بالآخر. الاعتراف بالآخر كان نقطة قوة للإسلام في بداياته الأولى، وأعطى البشرية ميزة إنسانية تقوم على مبدأ الذمة الذي يعني في جوهره الاعتراف بالاختلاف والتعدد والتنوع وعدم الاكراه في الدين. هذا النظام العادل لم تفهم الدولة العربية لاحقا كيفية التعامل معه وتطويره وتوضيح معالمه القانونية والدستورية فتحول لاحقا إلى نوع من الثقل، وبدأت فكرة الملل والنحل تتحول إلى حالات من الخصوصيات التي أنشأت مشكلة عرفت بالأقليات وهي شكلت مصدر توتر وقلق حين استغلتها الدول الأوروبية للضغط على السلطنة العثمانية من الداخل. وزادت المشكلة حين بدأت السلطنة تتخلى رويدا عن مبادئ الإسلام، وتتجه نحو تبني الأفكار القومية الأوروبية التي تعتمد أساسا على تجانس المجتمع الديني - اللغوي وهو أمر لا يتوافر في المجتمعات الإسلامية فظهرت الانقسامات وتفككت السلطنة عشية الحرب العالمية الأولى.
وأخيرا لا آخرا، هناك قراءة تتناول موضوع تبدل طرق التجارة التي كانت تعتمد عليها الدولة العربية (الإسلامية) أو السلطنة العثمانية. فالطرق التجارية تغيرت مع تغير خطوط المواصلات بعد الاكتشافات الجغرافية الكبرى التي انطلقت من البرتغال في مطلع القرن الخامس عشر وانتهت في نهاية القرن إلى الدوران حول إفريقيا واكتشاف أميركا، فأحدث التطور الجديد نقلة نوعية في خطوط التجارة القديمة. وأدى هذا التبدل إلى اضمحلال العمران في كل المناطق والمدن التي كانت تعتمد على القوافل في اقتصادها. وهذا التحول في خطوط التجارة الدولية أسهم في تقليص مداخيل الدولة ومصادر ثروة تعتمد في اقتصادها على التجارة (الريع) لا الانتاج. ومع مرور الوقت اتسعت الفجوة الزمنية بين العالمين العربي والأوروبي فتراجع الأول لأنه لم يبحث عن بدائل وتقدم الثاني لأنه نجح في السيطرة على الأسواق العالمية وتطويق المسلمين من كل الجهات.
قراءات المستشرقين الأوروبيين تختلف عن قراءات المستغربين العرب (المندهشة بعجائب الغرب). والاختلاف مصدره يعود إلى فهم مختلف للزمن والتاريخ ووعي لا يفصل بين الأسباب والنتائج. قراءات المستشرقين حاولت فهم العوامل الموضوعية للإجابة عن أسئلة التاريخ فلم تكترث كثيرا لحالات الذعر والقلق بقدر ما حاولت البحث عن جواب لزيادة المعرفة الواقعية - العقلانية لأصول التقدم وأسبابه.
أجوبة الذعر لها صلة بالأسئلة المذعورة، بينما أجوبة من نوع «الدولة والبداوة» و«اقتصاد الغزو» و«نظام التوريث» و«نظام الملل والنحل» أو الأقليات، وأخيرا تبدُّل طرق التجارة... وغيرها كلها تدل على محاولة للقراءة لا مكان لها في عقول تستبد بها المخاوف، وتسيطر عليها الهواجس سواء القلق من المستقبل أو الخجل من الماضي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 651 - الخميس 17 يونيو 2004م الموافق 28 ربيع الثاني 1425هـ