بوسع الاستراتيجيين في «إسرائيل» أن يشعروا بالقلق. العلاقات العربية التركية لم يعد يغلب عليها طابع التوتر وارتياب كل طرف من الآخر. وإذ ساهمت حرب العراق ونتائجها في تحقيق تقارب بين العرب وتركيا، ولأول مرة أصبح في العالم العربي من يعتبر تركيا دولة ديمقراطية تصلح لأن تكون نموذجا لسائر دول المنطقة. هذا ما يقر ويعترف به مثقفون عرب. المؤكد أن العلاقات العربية التركية دخلت مرحلة جديدة تختلف كليا عن المراحل السابقة التي وصفت بأنها صعبة. فعلاقات تركيا مع جيرانها العرب لم تكن يوما جيدة وبالشكل الذي عليه اليوم. بل سادها التوتر تارة لأن حكومة أنقرة أمرت جنودها بالتوغل في العمق العراقي بحثا عن مقاتلي حزب العمال الكردستاني المحظور، وتارة دخلت في مناوشات مع سورية واستنفرت قواتها أكثر من مرة على الحدود مع هذا البلد العربي.
قبل أيام اكتشف الأتراك العرب واكتشف العرب الأتراك. قبل عملية الاكتشاف التي سيكون لها اثر بالغ على مستقبل دول الشرق الأوسط بما فيها «إسرائيل»، كان هناك رفض عربي لتركيا، ومن بين أسباب العلاقات الباردة لأبناء العم أن العالم العربي لم ينس بعد الذكريات المؤلمة التي خلفها الاستعمار العثماني، كما لم يصفح العرب الخطوة التي قام بها كمال الدين مصطفى أتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة والذي كان يحب تناول الطعام الفرنسي بما فيه النبيذ الفاخر حين ألغى كتابة اللغة التركية بالأحرف العربية وأمر بأن تكتب ومازال هذا ساريا حتى اليوم بالأحرف اللاتينية. منذ ذلك الوقت كان هدف تركيا واضحا وهو الانضمام إلى أوروبا بعيدا عما كان الأتراك يصفونه بالمنطقة المتخلفة من العالم. وفي العام 1963 نجحت مساعي تركيا في الحصول على وعد من دول المجموعة الأوروبية في قمة كوبنهاغن بضمها كعضو كامل لنادي الأوروبيين. لكن في أوروبا اليوم يزيد عدد رافضي العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي عن عدد المؤيدين والبديل الذي يطرحه الرافضون أن تحصل تركيا على صفة خاصة في الاتحاد الأوروبي يعتبرها الأتراك أقل درجة من العضوية الكاملة ويطالبون بأن يجري التعامل معهم مثلما تم التعامل مع الجمهورية القبرصية اليونانية التي انضمت في مطلع مايو/ أيار الماضي إلى الاتحاد الأوروبي. الأتراك من جانبهم سجلوا مآخذ على العرب لأنهم تعاونوا مع الاستعمار البريطاني ضد الأمبراطورية العثمانية واستمروا بعد إعلان قيام الجمهورية التركية الحديثة رفضها باستثناء التقارب الذي سعى إليه الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة والذي كان يعتبر تركيا دولة عصرية نموذجية.
لم تنجح تركيا التي يشكل الإسلام الديانة الأولى فيها، في احتلال مكانة متقدمة بين دول العالم الإسلامي، وكان لهذا اثر سلبي على علاقاتها مع الدول الإسلامية كافة. وزادت نتائج الحرب الباردة العلاقات بين تركيا ودول المنطقة فتورا وكذلك وبصورة خاصة تحالفها الاستراتيجي الذي أبرمته مع «إسرائيل». وعندما انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) كان واضحا أنها اختارت الجلوس في حضن المعسكر المناهض للعرب. ففي زمن الحرب الباردة كتب على كثير من الدول العربية على خط المواجهة مع «إسرائيل» أن تتحالف مع الاتحاد السوفياتي والاستفادة من ترسانته الحربية في مواجهة «إسرائيل» التي تحصل على أسلحتها من الولايات المتحدة ودول أوروبية غربية. وكانت تركيا أول دولة مسلمة أبرمت علاقات دبلوماسية مع «إسرائيل» وفي العام 1975 افتتح رئيس الوزراء السابق بولنت أجاويد سفارة فلسطين في أنقرة. ويعتبر بعض المحللين أن نهاية الحرب الباردة واستعداد الجانبين للتعاون في التوصل إلى حل للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي وتحقيق الأمن والاستقرار في العراق ومواجهة خطر الأصوليين، كلها مجتمعة وضعت أرضية جديدة لهذه العلاقات. ويشعر المسئولون في حكومة أنقرة بارتياح لأنهم نجحوا في الفوز باهتمام العرب وأن بعض الدول العربية أصبحت تعترف بالديمقراطية التركية وتعتبرها حافزا لتطبيقها في أراضيها.
كل هذا التغيير بدأ بمجيء الزعيم الإسلامي أردوجان إلى السلطة والدور المهم الذي لعبه وزير الخارجية، جول، في عقد صلات جديدة مع الدول العربية وتجاوز خلافات الماضي. وكان جول، عمل في مجال الاقتصاد بوصفه أستاذا في البحوث الاقتصادية وعاش عدة سنوات في السعودية. وراقب العرب باهتمام بالغ التحول الذي شهدته تركيا بعد تولي أردوجان السلطة ونجاح الاختبار الجدي في الجمع بين الديمقراطية والإسلام ضمن دولة عصرية. وتعتقد تركيا أنها أوجدت فكرة إقامة دولة عصرية تلتقي فيها الديمقراطية والإسلام وانه بوسع دول المنطقة خصوصا ودول العالم الإسلامي عموما الاستفادة من التجربة التركية والعمل في تبنيها وتطبيقها. وكان موقف حكومات الاتحاد الأوروبي المعارضة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أبرز دوافع لجوء تركيا إلى تحقيق إصلاحات تمهيدا للمطالبة بالعضوية. أبرز هذه الخطوات إلغاء عقوبة الإعدام ووقف تعذيب المعتقلين وخصوصا المعتقلين السياسيين واحترام حقوق الإنسان والعمل في حل النزاع القائم مع الأكراد. واقتنع المستشار الألماني غيرهارد شرودر بالإصلاحات التي أنجزتها حكومة أردوجان وهو اليوم من أبرز مؤيدي العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي. وكانت مبادرة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش بشأن الشرق الأوسط الكبير والتي قدمها الأميركيون بطريقة غير لائقة ومهينة للعرب وفي صورة أمر بأن يجري نشر الديمقراطية، أسفرت عن ظهور مناقشات جادة في العالم العربي عن ضرورة تحقيق إصلاحات تمهد لانتشار الديمقراطية. وتحتفظ تركيا لنفسها بلقب الدولة الديمقراطية النموذجية في منطقة الشرق الأوسط. هذا النجاح التركي نبه المحافظين ومؤيدي الإصلاحات في العالم العربي للأخذ بالمثال التركي وعدم الخشية على النفوذ نتيجة الجمع بين الإسلام والديمقراطية. ويلاحظ محللون سياسيون أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر يراقبون سياسات أردوجان ويفكرون بتبني أسلوبه في حال فوزهم بالانتخابات البرلمانية. وفي عدد من الدول الإسلامية في آسيا، في ماليزيا على سبيل المثال، استطاع المسلمون الحصول على السلطة عبر الانتخابات العامة وتوصلوا مع قادة الجيش إلى اتفاق على تقاسم النفوذ.
في العقود الماضية كانت تركيا قريبة لكن بعيدة في الوقت نفسه. وساهم موقف حكومة أردوجان من حرب العراق في شد اهتمام أجهزة الإعلام العربية بعد أن تجاهلت هذه الأجهزة ما كان يدور في تركيا في عهود رؤساء الوزراء السابقين ديميريل وأجاويد وشيلر ويلماز باستثناء ما يجري على مسار العلاقات بين تركيا و«إسرائيل». كسرت أجهزة الإعلام العربية الصمت وأصبحت تتحدث عمّا يجري في أنقره من قضايا تثير الاهتمام وخصوصا سياستها تجاه العراق. وسجل الأتراك نقطة مهمة عند العرب من خلال تحديهم إدارة بوش ورفضهم السماح للقوات الأميركية استخدام الأراضي التركية لغزو العراق بقرار برلماني عبر عن جدية الديمقراطية التركية. هذه الخطوة لم تجذب اهتمام العرب فحسب بل حسنت سمعتها لدرجة كبيرة. حتى اليوم يشيد العرب بموقف تركيا خلال حرب العراق التي سبقتها جولة قام بها وزير الخارجية جول إلى جميع دول الجوار ومنها العراق ضمن محاولة لتجنب وقوع الحرب. منذ ذلك اليوم يتداول دبلوماسيون عرب مقترح يدعو إلى منح تركيا صفة عضو مراقب في جامعة الدول العربية.
ليست هذه أول مرة تقدم تركيا نفسها كدولة نموذجية. فقد فعلت ذلك في التسعينات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسعت إلى فرض هيمنتها وكذلك اللغة التركية على بعض الجمهوريات المستقلة. لكن هذه الجمهوريات رفضت الهيمنة التركية التي تمثلت أيضا بتصدير تركيا بضائع من الصنف الرديء وأغرقت أسواق هذه الجمهوريات بها وأصبحت هذه المناطق قبلة لرجال الأعمال الأتراك من الدرجة الثانية ما دمر هذه العلاقة. في الغضون فإن منتجات تركيا أغرقت بعض الأسواق العربية بالشوكولاته وأجهزة التبريد والتلفزيون وألبسة الجينز بأسعار بخسة حسنت سمعة تركيا عند شعوب المنطقة. تستغل الحكومة التركية هذا التطور وتعتبر أنها استعادت دورها كقوة عظمى في الشرق الأوسط. لكن تركيا لم تتعلم من أخطاء الماضي. مازالت تفضل دور الجار غير المرغوب به الذي يطرق الباب في منتصف الليل على باب أوروبا طلبا لأن يصبح من أهل البيت وهكذا تقامر تركيا بدورها الجديد في الشرق الأوسط
العدد 650 - الأربعاء 16 يونيو 2004م الموافق 27 ربيع الثاني 1425هـ