العدد 650 - الأربعاء 16 يونيو 2004م الموافق 27 ربيع الثاني 1425هـ

جورج أورويل... قوة المواجهة

لندن - اليزابيث واسرمان 

تحديث: 12 مايو 2017

يصور، مُؤلف كتاب «Why Orwell Matters» كريستوفر هيتشنس، الكاتب الشهير جورج أورويل بالرجل المنشق والمتمرد الذي واجه بحزم جميع الحقائقَ البغيضة في الحياة.

عاش جورج أورويل حياة صعبة متمسكا بآرائه النابعة من قوة العقل والمنطق في مواجهة نقاده لكن التاريخَ برهن على أنه كان على حقّ في آرائه تجاه القضايا الرئيسيةِ في القرنِ العشرينِ. عندما ساد المناخ السياسي ذو القطبين في فترة الثلاثيناتِ والأربعيناتِ كانت لأورويل نظرته الخاصة به على عكس غالبية مثقّفي الحزب اليساري والحزب اليميني الذين كانوا يخشون القوى العالمية المستبدة. رَأى أورويل أنّ الاختيار بين الستالينيةِ والفاشيةِ لم يكن يمثل خيارا حقيقيا وأن الصراع الحقيقيِ كَانَ بين الحرية والاستبداد. تربى أورويل تربية اشتراكية محافظة وكان متمردا بطبيعته فهو لَمْ يُؤمنْ بالسياسةِ كمسألة ولاء إلى حزب أَو معسكر معين لكنه آمن بقوة إدراك الحقائق بالعقل والجرأة في مُوَاجَهَة الحقائقِ البغيضة. ومن إحدى مقولاته الشهيرة يوضح أورويل «أن النفاق هو عدو اللغة الأول».

ويؤكد كريستوفر هيتشنس في مقاله المتعلق بقصة حياة أورويل أن «قوَّة المُوَاجَهَة» هذه كانت مهمة جدا بالنسبة إلى أورويل الذي كانت حياته مليئة بالكراهيةِ والخطرِ. قد واجه أورويل أثناء عَمَله شرطيا في بورما تعقيدات الإمبراطوريةِ وتأثيراتِها الغادرة على المستعمر والمستعمرين على حدّ سواء كما شَهدَ أثناء قتاله في الحرب الأهليةِ الاسبانية شرور الستالينيةِ؛ وفي باريس ولندن، وبلدان التعدين المُخْتَلِفةِ بشمال إنجلترا، إذ جرب العيش ضمن الدرجات الوضيعة في المجتمعِ ورَأى مخاطرَ المحاولاتِ التي بذلتها الدولة والكنيسة لرَفْع مستوى الفقراءِ. من خلال جميع هذه التجاربِ، أبدىَ أورويل وجهات نظره المنشقة وواجه معارضة اجتماعية كثيرةَ من قبل الكثير من المثقفين نتيجة ذلك.

يعتبر هيتشنس، الصحافي اليساري المعروف، مفكّرا مستقلا آخر يكره القبليّة والنفاق السياسي إذ يعتبره الكثيرون وريث أورويل في أفكاره لأنه وقف وقفة حازمة ضد الحرب على الإرهاب إبان حوادث 11 سبتمبر/ أيلول واعتبر أميركا مسئولة بشكل مباشر عما حصل لها. اشتهر هيتشنس بانتقاداته للمفكرين العظماء أمثال وينستين تَشِرشِل و الأم تيريزا لكنه في كتابه Why Orwell Matters يَلعب دورَ المدافعِ المتحمسِ لأفكار أورويل وتوجهاته المخالفة.

إن معظم الانتقادات لأورويل جاءتْ مِنْ الحزب اليساريِ إذ أكد هيتشنس أن اسم أورويل فقط كان كفيلا بإثارة الاشمئزاز بين الكثيرين. لم يغفر الكثير من المثقّفين اليساريين لأورويل إدانتَه للنظامِ السوفياتي وتصويره الشنيع للاشتراكية في روايتِيه مزرعة الحيوانات Animal Farm و1984. من ضمن هؤلاء: إي . بي . ثومسون وإسحق دستشر وإدوارد سعيد وسلمان رشدي الذين وصفوا أورويل بالشخص الرجعي والاشتراكي المتعصب لحزبه.

وليس من المفاجئ حقا أن يكون لأورويل مؤيدون كثيرون من حزب اليمين نتيجة اشتباكاته مَع المثقفين اليساريين وأرائه الثقافية المعارضة للستالينية. وبالإضافة إلى كونه أَول من ابتكر مصطلح «الحرب الباردة» فإنه شن حملة ضارية لفضح المذبحة السوفياتية للجنود البولنديين في كاتين Katyn العام 1940. لقد كان أورويل من أشد المعجبين بشخصية واضع نظرية السوق الحرة Free Market فريدريك فون هايك الذي جادل في أنّ الاشتراكيةِ تَقُودُ حتما إلى نشوء حكومة استبدادية وأن النازية والشيوعية هما جانبان لعملة معدنيةِ واحدة. ولقد جذبت روايته المعادية للشيوعية 1984 قلوب وعقولَ الكثيرين.

ولكن في مقال نشر العام 1984 بعنوان If Orwell Were Alive Today لنورمان بودوريتس أكد هذا الأخير أن رواية أورويل 1984مساندة لسياسةِ ريغان النووية و الهيمنةِ الاميركيةِ عُموما ولكن هيتشنسَ أثبت أن بودوريتس أخذ أجزاء من جُمَلِ أورويل التي جاءت ضمن السياقِ ونَسبَ إليها معنى بعيدا أو بالأحرى معنى مختلفا تماما عن المعنى الذي قصده أورويل.

توفي أورويل العام 1950 في بداية الحرب الباردةِ، بقيت توجهاته السياسية التي كان من الممكن أن يسلكها سؤالا مفتوحا. لكن من وجهةِ نظر هيتشنس فإن أورويل جدير حقا بأن نتمسك به ونقتدي بأفكاره التي تدعو إلى الالتزام باللغةِ بصفتها شريكا أو وسيلة لقول الحق وبأنّ وجهاتِ النظر لا تَهم حقا لأنها تتغير مع الزمن وأن السياسةِ غير مهمة نسبيا، بينما المبادئ يجب أن تبقى ثابتة لا تتغير.

أجريت هذا الحوار مَع هيتشنس حديثا عن طريق الهاتفِ:

إليزابيث واسرمان

يعاني أورويل، كما تَصِفُه في كتابِكَ، مِنْ ضمير معذب لأنه عانى الكثير من رَفْضه ومحاربته للتحيز المحافظ والإجحافِ الذي كبر معه لكي يُصبح ذا ميول اشتراكية صادقةَ. لقد صَرفَ مُعظم حياتِه أيضا ليعرض نفسه عن عمد للكراهيةِ والخطرِ. هَلْ لديك انطباع بأن أورويل لا يحب نفسه؟

- أعتقد أنّه من الواضح جدا من دُون أدنَى شَكّ أنّه لَمْ يحب نفسه كثيرا وعلى فكرة فهو لم يكن جذابا جسديا، كَانَ بشعا وبغيضا وغير جذاب بالنسبة إلى النِساء. وهو بالتأكيد لم يكن يقدر نفسه على مقدرته ككاتب. كما انه لم يحقق نجاحا ماديا كبيرا وعَانى في حياته مِنْ مرض محرج إذ كان دائم السعال بشكل سيئ ودائم الشعور بالإحباط. لا شيء من ذلك يُمكنُ أَنْ يساعدهَ على احترام ذاته. ليس هناك أي شك في أنه قلل من قدر نفسه كشخص وكمُؤلف.

هل هذه صفة جيدة في كاتب؟

- أنا لا أعتقد أن تقليل الشخص من اعتباره الذاتي يعتبر شيئا جيدا، لكن ذلك لا يَعْني أن يكون الكاتب غير كفء إذا قلل من قدر نفسه. أكبر مثال على ذلك شخصية مارسيل بروست الذي نعت نفسه بالضعيف والجبان والقبيح وعديم الموهبة . هذا التواضع لا يعتبر خاطئا على الإطلاق لأنه من شأنه أن يرفع من قدره ككاتب في نظر الناس.

ما أحاول قوله هو أن أورويل ليس بكاتب عظيم انما هو كاتب صادق وشجاع يمتلك الكثير من الأعمال الناجحة، ليس هناك شَكّ في ذلك لَكنَّه لا يصنف ضمن الرتبةِ الأولى من الكتاب وذلك شيء جيد، لأنه يبين لنا أن أي شخص عادي أو متوسط الحال يمكن أَنْ يصل إلى ما وصل إليه أورويل.

لاحظتُ أنّك ذكرت في كتابِك تقييمين متعارضَين لشخصية أورويل فمن ناحية ترددت الكثير من العبارات عن ما يميزه عن غيره حقا وهو أنه ليس عبقريا ومن ناحية أخرى، يُشيرُ روبرت كونكيست إليه بالعبقري. أي هذين التصويرين عن أكثر واقعية في رأيك؟

- نعم، أعتقد أنه لا يمكننا المقارنة بين وجهتي النظر هاتين كشيئين متضادين. بَعْض الناسِ يمتلكون موهبة القدرة على تمييز الشخص الذي يكذب عليهم. قَدْ لا يَعْرفونَ ما هي الحقيقة بالضبط لَكنَّهم يمكن أَنْ يُميزوا الشخص الذي يُحاولُ بَيْعهم شيئا مظلّلا. أعتقد أن أورويل كان يمتلك هذه القدرة إلى درجة مدهشة فعندما كَتبَ عن المذابح الروسية، على سبيل المثال قالَ: «شيء ما فظيع يحدث هنا أنا لا أَعْرفُ ما هو، لكن هناك اتجاها خفيا مِن الهستيريا هنا».

كما أن أورويل قد يكون اعتقد، من دون قول ذلك بشكل صريح، أنّه يمكنك أَنْ تقنع حشدا هائلا من الناس بشيء غير صحيح بسهولة أكبر من محاولة اقناعك شخصا واحدا. لقد كان أورويل يكره الاقتراحات الجماعية، أَو الهستيريا الجماعية في التحيز لحزب معين وهذا نابع من تجربته المبكرة في الحياةِ إذ كان يمَقت الطريقَة التي تتلاعب فيها السلطة بالشعب.

هل تعتقد أنّ هذه المقاومة تعطيه القوّةَ للسباحَة ضدّ التيارِ سياسيا؟

- نعم أعتقد أنه كرس حياته لهذا الهدف كأنه شعر بأنّ قدرَه في الحياة هو أن يكون وحيدا وغريبا. وصف أورويل أحيانا بالقديسِ العلمانيِ نتيجة الحياة الزاهدةَ التي عاشها والتضحيات التي قدمها لأجل رؤيته الأخلاقية.

هل تَعتقدُ أنّه كان يؤمن بأن له رسالة ودعوة معينة في الحياة؟

- هناك عدد قليل من الكتاب الذين يشعرون أنّهم ربما يكتبون لغرض أسمى أَوأن الكتابة هي قدرهم. لا أَستطيعُ الجزم بأن أورويل كان واحدا منهم إذ لا يوجد أي أثر لذلك في محادثاتِه كما هو منقول عنه مِن قِبل أصدقائه. و هو شخصية معروفة جدا بين الكتاب المعاصرين إذ ذكر في الكثير من كتاباتهم.

أعتقد أنه ربما تكون هناك قيمة أخلاقية معينة لكونه في الجانبِ الخاسرِ لأن ذلك يؤكد أنّه كَانَ على حق ومن الممكن أن يكون قد تملكه شعور طفيف مِن التفوقِ والابتهاج نتيجة مواقفه من الفئة الخاسرة والتي كان يعتبرها مشرفة. هذا تخمين فقط فقد تكون صلته بالجانبِ الخاسرِ نابعة من تشاؤمه.

هل كان مغرما بالطبيعة؟

- أنا لا أعرف شيئا عن ولعه بالطبيعة، أعتقد أنه كان يجد عزاءه في الطبيعة. لقد كَتب قطعة قصيرة وجيدة عن شعوره تجاه قدوم الربيعِ ثانية في لندن بعد خروج فصل الشتاءِ القارس وأنه لا توجد أي قوة ولا حتى قوة السلطات يمكن أَنْ توقف قدوم فصل الربيع المليء بالطيورِ والزهورِ.

في روايته1984 هل كان يحاول مواجهة الناس بأسوأ ما يُمْكِنُ تخيّله على أمل أنهم سيتعظون ويسلكون الطريق الصحيح؟

- نعم لقد فكر أورويل عندما كتب روايته 1984 أن مواجهة الناس بأبشع ما قد يحدث لهم مستقبلا قد لا يعني بالضرورة إصابتهم بالرعب و الاكتئاب فقد يكون دافعا للثباتِ وتوخي الحذر.

لقد أعجبتني ملاحظتك عن كون رواية 1984 ملخصا لجميع أزمات أورويل الشخصية التي مر بها ابتداء من المدرسة الداخليةِ إلى بورما إلى الحربِ الاسبانية. كَيفَ تَعتقدُ أنّه ربط جميع هذه التجارب برؤيته الخاصة في روايتِه؟

- أَنا متأكّد أنه فكر جيدا مع نفسه وتخيل كيف يكون العيش في مجتمع يائس جدا تمتلك فيه الحكومة السلطة المطلقة وتسيطر فيه على دراسةِ التاريخِ المحرف و إذا ما حصل أيّ خلاف فإنها تَعتمدُ على الولاءِ المطلق لمؤيديها لنشر الكَراهية تجاه المعارضةِ. لقد عاد أورويل إلى أيام مدرسته الداخليةِ ليشبهها بالحكومة والسلطة، ففي المدرسة تعامل وكأنك طفل لا تفقه شيئا مما يدور حولك، لذلك فهم يسيطرون على أفكارك حتى تعتقد أنّ ما يَقُولونَه حقيقة على رغم أنك قد تخمن بأنهم قَدْ يَكْذبونَ عليك، لَكنَّك لا تَعْرف الحقيقة بالضبط فهم يُدرسونك التأريخَ ويُدرسونك أمور الدين ويعتبرون أنفسهم مسئولين عنك جسديا وعقليا وأدبيا. وإذا كنت شخصية غير محبوبة فإن الأولادَ الآخرينَ سَيَنقلبونَ عليك وهم لَنْ يَتعاطفوا مَعك ضدّ السلطاتِ وقد تشعر بالعزلة الكاملة وتبدأ في التساؤل هل العيب يكمن فيك أم في الآخرين؟

أحد الأسباب التي جعلتني أحبُه كمُؤلف عندما كنت شابا أنّني عايشت التجربة ذاتها ولكن ليس بمثل هذه القسوة فقد كنت في احدى تلك المدارس عندما كنت في العُمر نفسه.

أنت تتكلم عن مقاله Such, Such were the Joys

- أعتقد أن أورويل تَعلّمَ الكثير في بورما ويبدو ذلك جليا من روايته التي ينصاع فيها الشعب للقيام بنصف عمل الحكومةِ أو أكثر. لقد كان هناك عدد قليل جدا من الرجال الإنجليز المُسلَّحين في بورما، لَكنَّهم كَانوا قادرين على السيطرة على الناسِ لأنه كَانَ لديهم اعتقاد بأن من حقِّهم عمل ما يريدون و كَانوا متمرسين في إثارة الفتن بين الشعب.

لقد كتبت أنّه تَعاطفَ مَع الحكام بقدر ما تعاطف مع عامة الشعب وأنّه كَانَ قادرا على التعايش مع الاثنين...

- أعتقد أن أورويل كَانَ مستاء مِن الفكرةِ التي كان يحملها بعض الأشخاص المتحررين عن المستعمرين البريطانيين في بورما وأنهم لم يكونوا يعملون شيئا غير التنزه في الشرفةِ وإعطاء أوامرهم للخدمِ لجَلْب المشروباتِ واستعمال السوط لضرب الخدم. لقد عرف أورويل أنه كانت هناك محاولات شجاعة لتَحسين حياةِ المستعمراتِ. لقد كان يمقت أساليب التزييف والنفاق ويؤمن تماما بأن دراسة عقليةِ الحكامِ وطريق تصرفاتهم تسهل الأمور أكثر.

لقد ذكرت في كتابك نقطة مهمة، وهي أنه من الصعب حقا تَحديد اتّجاهات أورويل السياسية فبينما تمسك بحزب اليسارِ سياسيا فإنه كان محافظا تماما من الناحية الثقافية فهو لم يكن في صف المؤمنين بالمساواة بين الجنسين أو الشواذّ جنسيا أَو النباتيين. كما أنه لم يكن معجبا بفكرةِ حِماية الطبيعةِ والحيواناتِ على حساب الإنسانِ وكَانَ ضدّ عمليات الإجهاضِ. وقد اعترضَ على هبوطِ مستوى الوضوحِ والحقيقة والموضوعيةِ في اللغةِ المكتوبةِ. أين موقع أورويل من الثقافة السياسيةِ اليوم؟

- لقد استعرض جيفري ويتكروفت في مقاله The Spectator كتابِي بطريقة جيدة جدا. وكان محقا نسبيا عندما علق بأنه في انجلترا اليوم يعتبر حزب اليمين هو الرابح سياسيا واقتصاديا أما من الناحية الثقافية فحزب اليسار هو الرابح . كما علق بأن أورويل كان يفضّل حصول العكس تماما. أنا أَشْعرُ بالطريقة نفسها التي كان يفكر بها أورويل.

من المحتمل أن أكون مُلحدا متشددا بدرجة أكبر من أورويل. أَنا من النوع الملحد المقاتل. لَكنِّي أَعتقد انه لم تعد هناك كرامة للكنيسة الانجليزية التي ارتدت الزي التقدمي العلماني، مُحَاوَلَة أن تكون عصرية وشعبية في أوساط المجتمع. اني أجد ذلك مقززا حقا لأسباب كثيرة كما أنني متأكّد أن أورويل كَانَ سَيَراوده الشعور نفسه. عندما أُناقشُ مثل هذه الأمور لا أَعْرفُ سواء أكنت أَبْدو محافظا أَو غير ذلك وأنا لا أَهتمُّ عموما.

كتبت كثيرا عن المشاعر الحادة التي مازال حزب اليسار يكنها لأورويل. هل تعتقد أن هذا الشعور طبيعي، فمعظم مثقّفي حزب اليسار اليوم يتّهمونَ بتعصبهم وعدم تحملهم للنقد من قبل الآخرين وخصوصا إذا كانوا ضمن الحزب نفسه؟ ومارأيك في الإرهاب الرقابي الذي يمارسه هؤلاء المثقفون باسم الصوابِ السياسيِ؟

- أعتقد أن ما قلته صحيح. لقد علق هانا آردنت ذات يوم قائلا ان أحد الإنجازاتِ العظيمةِ للستالينيةِ يكمن في استبدال جميع المُناقشات التي تَتضمّنُ الحججَ والإثباتات بسؤال عن الدافعِ وراء هذه الحجج. فعلى سبيل المثال، قد يعلق أحد الأشخاص بأنّ هناك الكثير من الناس في الاتحاد السوفياتي ممن لا يحصلون على حصة كافية من الغذاء يوميا قد يكون الرد المعقول هو «إن هذا ليس ذنبنا، فقد كان الطقس سيئا والحصاد غير كاف» لكن ردهم غالبا ما يكون: «لماذا يتكلم هذا الشخص بالذات، ولماذا ذكر ما ذكره في هذه المجلة بالذات؟ هل من الممكن أن يكون ذلك جزءا من خطة محكمة». هذه العقلية مشتركة بين الكثير من كبار مثقفي حزب اليسار مثل رايموند وليامز الذي كتب عن أورويل انهم يفكرون دائما بطريقة سلبية.

أنت أيضا تَنتقدُ المجموعات التي عاملت أورويل كواحد منهم مثل المحافظين في فترة الحرب الباردة والوطنيين الإنجليزَ. كيف يسيء الكثيرون فهم شخصية تكتب بمثل هذا الوضوح والشفافية؟

- أحب أَنْ أشير هنا إلى أنه في جميع المحاولات لإسَاءة قراءته جاءت عن طريق تَشويه جمله المقتبسة من كتبه. إن ذلك ملاحظ في حال نورمان بودوريتس الذي يستشهد بالنص الذي يخدم مصالحه فقط. كما أن غالبية المقتطفاتِ الأخرى المحرفة مِنْ كتب أورويل ليست أفضل بكثير فهي دائما تأتي على شكل بضعة عبارات خالية من المضمون. ومن الجيد حقا أن لا يمكن لأي أحد أن ينشر جملا طويلة مقتبسة وملفقة من كتابات أورويل لأنه يكتب بطريقة يستحيل إسَاءة فهمها.

كتبت في بداية كتابك أن موضوعات مقالات أورويل سَتخلد لفترة طويلة في التأريخِ. هَلْ تَعتقدُ حقا أنّ الأجيال القادمة سَتُقدّرهُ بشكل صحيح عندما تختفي الصراعات الإيديولوجية من الذاكرةِ؟

- لقد كتب أورويل مقالات متنوعة عن النازية والإمبراطورية والستالينية ومن الواضح جدا أن ما يشد الناس لقراءته هو معرفتهم المسبقة بأنه قاوم و بَقي مميّزا ككاتب يتناول الموضوعات المهمة التي تظهر، كما في كتابه Homage to Catalonia، فليس من الضروري حقا أن نعرف التفاصيل المتعلقة بثورة كاتالونيا فمعظم الناس لا يعرفون شيئا عنها لكن عندما يقرأون لأورويل يعجبون بأسلوبه لأنه يَكْتبُ بثقة، وبأسلوب ثاقب ويصر على سلامة اللغة والأمانة السياسية والأخلاقية.

هل تعتقد ان هناك شيئا متأصّلا في أسلوبِه في الكتابة يوضح لنا أنه يخبرنا بالحقيقة؟

- نعم أعتقد أن ذلك واضح في كتاباته، لقد كَانَ يَكْتبُ عن أشياء مألوفة بالنسبة إلي مثل وصف الجو العام في عائلة عسكرية استعمارية إنجليزية، أَو تفصيل الأجواء في مدرسة تمهيدية إنجليزية. وبما أنه يكتب بطريقة تلفت انتباهي للمرة الأولى لأفكار كنت غافلا عنها فأنا أثق بآرائه بشأن الموضوعات الأخرى وهذه نقطة تحتسب لصالحه فالصدقية جزء لا يتجزأ من كتابات أورويل.

يستخدم مصطلح «أورويلي» Orweillian;ednh في اميركا وهو يرمز الى برامج «الأخ الأكبر» السياسية وتلاعب الحكومة للسيطرة على الفكر واللغة. هَلْ هناك تعبير آخر تَعتقد أنه قَدْ يَكُونُ أكثر ملاءمة؟

- يستخدم هذا المصطلح بطريقتين وهو يستخدم كثيرا في السياق الذي ذكرته ليرمز إلى شخص لا يملك الكثير ليقوله أَو يُريدُ أَنْ يفهمه الآخرون بشكل واضح من دون أن يتعب نفسه. لكن إذا نعت كاتب بالأورويلي وهو الأمر الذي يَحْدثُ أحيانا، فالمعنى هنا مختلف إذ يشير إلى شخص ذي «قوَّة مُوَاجَهَة» أكيدة وهذا المعنى لا يستخدم بكثرة.

من الحقائقِ المفاجئةِ التي ذكرتها في كتابك هي عدم مبالاة أورويل بأهمية الثقافةِ الاميركيةِ. وحتى عندما بَدأَ بتَقدير الأدب الاميركي وتَطوير العِلاقاتِ مَع مثقّفي نيويورك، لم يزر البلاد أبدا. هَلْ كانت هذه اللامبالاة متعمدة من ناحيته؟

- لقد وجد أورويل الكثير من الأمور المشبوهة في اميركا إذ كَانت دولة كبيرة وغنية وتطورت بشكل سريع جدا ولا تمتلك تاريخا كافيا من النضال أَو الكفاح حتى تستحق هذا الحظ السعيد وقد توقع أنّها كَانَت تمتلك طموحات إمبراطورية. ثمّ إن خلفية أورويل العائلية تعتبر مشابهة لخلفيتي العائلية فهو تربى في عائلة عسكرية، مستعمرة، ومحافظة جدا ووطنية ومتشائمة. ففي نظر هذه العوائل تعتبر اميركا ضخمة وفاسدة تماما كما تصورها هوليوود. أعتقد أنه هو لم يتحرّرْ من تلك الفكرةِ كما أنه لم يبال كثيرا بالموضوعِ فقد كان مهتما بمصير الحزب اليساري الأوروبي والإمبراطورية الأوروبية. لكني أعتقد أن آراءه كان من الممكن أن تتغير لو عاش عشر سنين أخرى وكان من الممكن أن يقنعه أصدقاؤه بالمجيء إلى نيويورك.

إن إشاراته إلى التاريخ الاميركي أَو النماذجِ الاميركيةِ قليلة جدا لَكنَّها هادفة تماما. لقد أدرك أهمية توماس باين وأهمية وجود الدستور الأميركي. و أعتقد أنه أدرك أن مبادئ الثورةِ الإنجليزيةِ للقرن السابع عشر انتصرت وهو الأمر الذي كان مهتما به كثيرا.

أنت، مثل أورويل تماما إذ ان انتماءاتك السياسية مستقلة، كما ان عددا من الأشخاص عقدوا مقارنة بينكما. أحد النقاد علق حديثا بأنّ رؤيتك لحوادث 11 سبتمبر كانت مثل رؤية أورويل لحوادث كاتالونيا الذي رأى أنها تحوّل جذري في العلاقاتِ بالحزب الثقافي اليساريِ. ما صحة هذا الافتراض؟

- كلا، لا يمكن عقد هذه المقارنة لسببين: الأول هو أن حوادث 11سبتمبر/ أيلول لَمْ تُعرّضْني لأي خطر. وثانيا، بالنسبة الي اني أعتبر ماحصل هو نتيجة تراكم سلسلة من الخلافاتِ مَع أحد الأحزاب الراديكاليةِ أو ما يسمى بالتشوموسكيزم Chomskyism. لم أكن أَعْرف أنّ أورويل اعتبر ما حصل في كاتالونيا Catalonia كان نتيجة حدوث تراكمات ربما كان الأمر كذلك لأني أعتقد أنه قَدْ بْدا مذعورا جدا تجاه ما كَانَ يَحْدثُ في روسيا. كل هذا جعله يفكر في أن جميع ما افترض حدوثه كان صحيحا. لكن من المحرج حقا مقارنة افتراضاتي بافتراضاته لأن ما يفترضه يحصل دائما في الواقع.

في مقاله المتعلق بالحرب الاسبانية، أبدى أورويل خوفه الكبير من اختفاء الحقيقة الموضوعية. هل تخشى تكرار حدوث ذلك الآن؟

- كلا، أعتقد أن محاولات الأجهزة الاستبدادية للسيطرة على«الحقيقة» فشلت على رغم توقع نجاحه. لقد كَانوا يسببون الرعب للجميع بسبب انعدام الرحمة من قلوبهم وغياب الضمير، والدرس الذي تعلمناه منهم أن الاستبداد قضى عليهم في النهاية. لابد أن فكرة مواجهة هذه القوة من قبل فرد واحد تبدو مخيفة جدا، لا أستطيع تخيل ما سيكون عليه الوضع.

أعتقد أن الفكرة القديمة التي تؤكد أن أي مجتمع يُمْكِنُ أَنْ يعزل بالكامل عن العالم الخارجي حتى لا تكون لدى أفراده وسائلَ لمقارنة الطريقِة التي يَعِيشونَ فيها مع مجتمع آخر هي فكرة خاطئة تماما وخصوصا في عصر العولمة.

لقد حذر أورويل الناس من تصديق جميع ما يقال وخصوصا رغبة المثقّفين والأكاديميين في الانقياد الأعمى إلى من هم في منصب السلطة والالتزام بالفكرة السائدة أو بمعنى آخر الخضوع والامتثال. إن ما يقلقني حقا أن الناس لا يَتذكّرونَ أورويل ومعارضته فكرة الخضوع جيدا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً