العدد 649 - الثلثاء 15 يونيو 2004م الموافق 26 ربيع الثاني 1425هـ

الولايات المتحدة... إعلاما وفاعلية

عادل مرزوق Adel.Marzooq [at] alwasatnews.com

-

في بداية حياة المجتمع الأميركي - منذ مئتي عام - لم تكن الصحافة الأميركية أكثر من أدوات دعائية تعبر عن اهتمامات سياسية متنافسة، ولكنها أصبحت الآن أداة حقيقية في اتخاذ القرار السياسي المحلي والدولي، إذ تشير استطلاعات الرأي الأميركية إلى أن جل القادة السياسيين الأميركان يعتبرون المواد الإعلامية من أهم مصادر المعلومات التي يعتمدون عليها في اتخاذ قراراتهم.

لم يحدث هذا التغيير نتيجة لأية اعتبارات أو تحسينات أدخلت على مهنة الصحافة الأميركية نظريا أو على مستوى حدث ما أو نقلة دستورية أو حركة مطلبية شعبية، ولكن لاعتبارات تتعلق بحال أو وضعية المجتمع الذي تسوده أصوات سياسية واقتصادية ذات تطلعات راسخة اتخذت من الصحافة آلية للتعبير عن احتياجاتها المتنافسة، فأصبحت هي الأخرى ذات طبيعة ليبرالية.

الدبلوماسية الأميركية لم تعد تعتبر المثاليات والقيم أساسا لحراكها، وهذا لا ندركه تحديدا، في كتاب الدبلوماسية الذي يعتبر من أهم الكتب التي حددت مفاهيم السياسة الأميركية لهنري كيسنجر، يتحدث قائلا: «كلما حصل تضارب بين القيم والضرورة، تعين على السياسة الخارجية أن تبادر إلى ما يمثل المصلحة الحيوية، بمعنى انه يتعين علينا التصدي لأي خطر يداهمنا مهما كان ضئيلا ومهما كانت ضريبة التصدي له كبيرة». فليست الولايات المتحدة - القوة الأولى عالميا - معتمدة على القيم أو المثاليات الأخلاقية في معالجاتها الإعلامية أو السياسية.

للأزمة العراقية الأخيرة والإحداثيات الخاصة بالصراع الأميركي الداخلي الذي يشتد مع قرب الانتخابات الأميركية زاوية أخرى، الدعاية الإعلامية التي أثيرت جراء تسريب الصور التي أدانت الجنود بممارسة تعذيب الأسرى العراقيين لابد أن نتعامل معها بروية، فالتسريب الإعلامي لم يكن اكتشافا تميزت به إحدى القنوات الإعلامية العربية لتهاجم فيه السياسة الأميركية في العراق، بل هو نتاج إعلامي أميركي له حساباته الخاصة.

الإعلام الأميركي المتهم بأنه يدار عبر رأس المال اليهودي له توتره الخاص قبل أية دورة انتخابية جديدة، فاللوبي اليهودي تعود أن يقف بدعمه في منطقة وسطى بين الجمهوريين والديمقراطيين، فالرهان في هذه المواقف قد يكلف السياسة اليهودية الكثير، إلا انه وبلاشك فإن الإدارة الأميركية الأخيرة كانت داعمة غير اعتيادية لليهود و«إسرائيل». إلا أن المؤسسة الإعلامية تقع فريسة الرأي العام الأميركي الذي بدأ في إعلان تذمره من عدد القتلى من الجنود الذي يتزايد باطراد، فكانت المادة الإعلامية الأخيرة مثيرة وجديرة بالتفعيل.

إلا أن التعامل الأميركي مع هذه الأزمة كان واقعيا وذكيا، اعتذار من رئيس الولايات المتحدة وإحداثيات سياسية مثيرة قاربت الإطاحة بوزير الدفاع، وقلما تجد مثل هذه الإحداثيات الإعلامية في دولة من الدول العربية التي تتفنن في مثل هذه الصورة وببشاعة أكبر. يمكننا التدليل على انتهاء الأزمة بأن الشارع العراقي لم يتفاعل التفاعل اللافت للانتباه تجاه هذا الملف.

العنصر الثاني الذي أريد تسليط الضوء عليه هو الصورة التي يحتفظ بها الرأي العام الأميركي تجاه الإعلام الأميركي. الرئيس السابق لقسم الأخبار بوكالة «الاسوشيتدبرس» جورج كرمسكي يعلق على هذا الأمر فيقول: «لا يحظى الصحافيون بتقدير المجتمع الأميركي في الوقت الحاضر إذ ينظر، إليهم الرأي العام باعتبارهم أصحاب قوة جبارة وسلطة لا حدود لها. في الوقت نفسه لا يقدمون الحقيقة ولا يحترمونها ومن ثم فإنهم لا يشبعون توقعات الرأي العام منهم».

ويتحفظ كرمسكي على ما إذا كان تقديم الحقيقة كاملة يحقق الصالح العام، أم انه قد يلحق الضرر بالمجتمع. فإذا كان تقديم الحقيقة عن بؤر التوتر والصراعات في المجتمع سيدفع إلى المزيد من الصراع والتوتر، فهل هذا مما يخدم قضايا المجتمع وأمنه؟ ويتساءل أيضا: هل متابعة ونشر أدق تفاصيل فضيحة لوينسكي مثلا يخدم أم يضر الصالح العام في المجتمع؟ ثم أليس يكفي تقديم الأبعاد العامة لمثل هذه القضايا للدرجة التي تسمح بتوعية الرأي العام لاتخاذ قراره ومحاسبة الرئيس ومحاكمته من دون خدش الحياء العام أو الإساءة إلى الأخلاق والأعراف.

كرمسكي حين يحاول الدفاع عن مؤسسة الإعلام والصحافة في الولايات المتحدة، يقوم بالتلاعب بين الصورة الحقيقية لأداة الإعلام (التي يفترض أن تكون كما نصت وثيقتا 1973 و1975 على ان الوسائل الإعلامية مهمتها الأولى إيصال الأخبار للمواطن لأنها تقوم بأداء واجبها وهو رفاهيته بالمعرفة عما يريد أن يعرف) وبين المفهوم الأخلاقي للإعلام. والحقيقة أن الصورة قابلة للاختلاف، إن كان محور الحدث داخليا كلوينسكي أو خارجيا كتعذيب الأسرى في العراق، بماذا كان يهتم القارئ أكثر ما أتذكره. أن المواطن الأميركي كان يتوق لمعرفة حقيقة غراميات رئيسه من تلك المتدربة، إلا انه لم يكن يجد المعلومة، تستطيعون إسقاط عبارات كيسنجر في «الدبلوماسية» هنا لمعرفة النتائج.

كذلك التغطية الإعلامية للحرب الأخيرة، كانت معتمدة على صحافيي الدبابات الموجهين نحو نشر معلومات محددة، تريد لها إدارة الرئيس بوش أن تصل إلى القارئ لتقنعه بعظمة التقانة الحربية الأميركية، لذلك لابد أن نعرف أن الحرب الأخيرة لم نعرف تفاصيلها كاملة.

إلا أن الملاحظ هو أن القوانين الإجرائية أو التنظيمية للصحافة الأميركية لم تتغير، مما يزيد على 75 عاما، إلا أنها مازالت تمتلك القدرة على التعايش مع أي صور مجتمعية تدخل للتركيبة العامة للمجتمع الأميركي، إن لم تكن أداة من أدوات التغيير ذاته

إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"

العدد 649 - الثلثاء 15 يونيو 2004م الموافق 26 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً