وثيقة إصلاح «الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا» التي تبنتها مجموعة الدول الثماني في 9 يونيو/ حزيران تحمل في طياتها فلسفة مطروحة في الدوائر الغربية. بداية كانت المساومة فيما بين أميركا وأوروبا على التسمية، وتم تغيير مسمى منطقتنا الى «الشرق الأوسط الكبير وشمال افريقيا» وأضيفت دولتان جديدتان إلى هذا المسمى (أفغانستان وباكستان). اوروبا أرادت مسمى «الشرق الأوسط الموسع» ولكنها لم تنجح في ذلك، لان مفهومها كان يعني توسيع «عملية برشلونة» التي تشمل الاتحاد الأوروبي والدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط. ولكن عملية برشلونة قائمة على أساس اتصال حدود المناطق وحماية امن هذه الحدود من خلال الاصلاح الاقتصادي والسياسي الهادئ والمنسق مع الحكومات. اما أميركا فان مفهومها استراتيجي يقضي بتغيير الشرق الأوسط إلى منطقة حليفة وصديقة ومعتمدة على حسن علاقاتها مع الغرب عموما وأميركا خصوصا.
ثم كان المنهج الذي اتبعته الوثيقة، وهو منهج يحمل الكثير من الذكاء. فالخطة التي وضعت انقسمت إلى عدة أقسام، ولكن كل قسم يبدأ بنص مستقى من بيان الجامعة العربية الاخير الذي صدر في تونس، ونص من إعلان صنعاء الذي صدر بعد اجتماع دولي بشأن الديمقراطية وحقوق الانسان ومحكمة الجنايات الدولية، ونص من بيان مكتبة الاسكندرية الذي صدر مطلع هذا العام بعد اجتماع مؤسسات المجتمع المدني، ونص من المجلس العربي للأعمال. ومجموعة الدول الثماني تضرب عدة أهداف مرة واحدة من خلال ذكرها لهذه النصوص.
من جانب آخر، فان بيان الثماني يود أن يؤكد للدول العربية التي قالت إن أميركا تود تدمير الجامعة العربية بأنها تعترف بالجامعة، ودليل ذلك هو اعتماد نصوص من بيان تونس. فذكر نص من بيان تونس يعني ان اميركا لا تسعى إلى ذلك وانها تحرج الحكومات العربية التي تتحدث عن الاصلاح، ولكنها لا تطبق أي شيء منه.
كما ان ذكر بيان صادر عن الدول يحمل في طياته فلسفة الديمقراطية التي تتحدث عن وجوب دمقرطة أجهزة الدولة من جانب، وتنشيط المجتمع المدني من جانب آخر، وفسح المجال أمام السوق الحرة والقطاع الخاص من خلال التشريعات والشفافية ومحاربة الفساد.
ولذلك فإن البيان يعرج على بيان الاسكندرية، معتبرا ذلك ممثلا لمؤسسات المجتمع المدني في الوطن العربي. والدول العربية منعت الحركات الاسلامية من حضور اجتماع مكتبة الاسكندرية وتم منع تداول مبادرة صدرت من جماعة الاخوان المسلمين بمناسبة انعقاد المؤتمر، وهنا يكمن خلاف بين مختلف الاطراف، لان عددا من الدول العربية يحرم على الحركات الاسلامية دخول الساحة السياسية، وتتوافق معها في هذا الطرح فرنسا، والى حد ما أميركا. فأميركا ليست ضد الحركة الاسلامية بشكل عام، وانما تحتاط منها وتعتبر عددا كبيرا من الحركات مصدرا للارهاب. في مقابل ذلك فإن المانيا ونوعا ما بريطانيا وعددا من الدول العربية تؤمن بضرورة اشراك الحركات الاسلامية في نشاط المجتمع المدني. بيان مجموعة الدول الثماني لا يدخل في كل هذه التفاصيل، ولكنه يشير بذكاء إلى بيان الإسكندرية ليحصل على شرعية أخرى صادرة من الوطن العربي.
ثم يشير بيان الدول الثماني إلى المجلس العربي للأعمال وهو بذلك يدخل العامل الثالث في الديمقراطية (بحسب المفهوم الغربي). فالعامل الأول هو الدولة (ويمثل ذلك بيان الجامعة العربية في تونس)، والعامل الثاني هو المجتمع (ويمثل ذلك بيان مكتبة الاسكندرية)، والعامل الثالث هو القطاع الخاص (ويمثله بيان صادر عن مجلس الاعمال العرب).
الدول الثماني تشير ايضا إلى اعلان صنعاء، وهذا بعد آخر يعطي شرعية دولية، لأن الاعلان صدر عن أكبر تجمع من الدول والمؤسسات المنادية بضرورة نشر مبادئ الديمقراطية وحقوق الانسان وتفعيل محكمة الجنايات الدولية. هذه الإشارات مهمة لان مجموعة الدول الثماني، بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، تبحث عن شرعية، واذا لم تحصل على الشرعية بصورة مباشرة فلعلها تحصل عليها بصورة غير مباشرة.
المفارقة هي، ان الولايات المتحدة تسعى إلى قيام «شرق أوسط كبير» بالاعتماد على نصوص صادرة من «وطن عربي سقيم»
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 649 - الثلثاء 15 يونيو 2004م الموافق 26 ربيع الثاني 1425هـ