الدول الثماني الكبرى أنهت مؤتمرها الذي عقد أخيرا في سي آيلاند جورجيا بعدد من الوثائق وخصت الشرق الأوسط بوثيقتين مهمتين، الأولى هي «شراكة من اجل التقدم»، والثانية «خطة مجموعة الثماني لدعم الإصلاح»، وخاطبت الوثيقتان الشرق الأوسط وفي صلبه البلدان العربية.
الشرق الأوسط تحول من حال المتابعة الحثيثة من الغرب، إلى حال المتهم بالتقاعس عن الإصلاح المطلوب، وأصبحت عيون الدول الكبرى مفتحة على مسيرة تطوره، إلى درجة تقرب من «الوصاية».
الوثائق التي نشرت أسقطت قضيتين:
- الأولى الخلاف اللفظي بين الداخل والخارج، فقط أشارت الوثيقة الأولى إلى عدد من الوثائق العربية من بينها وثيقة الإسكندرية للإصلاح، وهي نابعة من المجتمع المدني العربي، وكما أشارت إلى وثيقة مؤتمر القمة الأخير في تونس، وهي من جملة عدد من الوثائق الأخرى (الداخلية) المطالبة بالإصلاح السياسي والاقتصادي، وهي في ظني إشارات فقط لإنقاذ ماء الوجه، أكثر منها إيمانا مطلقا بفصل الداخل عن الخارج.
- الثانية هي الفصل الواضح بين الإصلاح المطلوب وبين الموضوع الفلسطيني، على رغم الإشارة إلى انه موضوع مهم، فإن ربطه تلقائيا بالإصلاح المطلوب لم يعد بضاعة مقبولة لدى الدول الثماني، أو حتى مقبولا من بعض الوثائق العربية الصادرة بهذا الخصوص، وان كانت الإشارة في «الشراكة» إلى ما لم تسبق الإشارة له، وهو التعهد بـ «تسوية عادلة وشاملة ودائمة يتمخض عنها دولتان تعيشان جنبا إلى جنب»، مع تأكيد «إصلاح» البيت الفلسطيني كمتطلب سابق لذلك.
النظام العالمي يتغير والوثائق المعلنة من قبَل الدول الثماني تدل على هذا التغيير بوضوح لا لبس فيه، فقد خرج النظام العالمي من التوازن إلى التوافق، وانتهت مرحلة التوازن الدولي التي سميت بـ «توازن الرعب»، بسقوط الاتحاد السوفياتي، واستمرت ذيولها المتأخرة شكلا كما ظهر في الخلاف الأوروبي والروسي مع أميركا بشأن الحرب في العراق، وها هي سلسلة التوافق تعود بسرعة إلى الالتئام، إذ يُقر الجميع أن ما يجمعهم أكبر وأهم بكثير ما يفرقهم اليوم.
دول مثل فرنسا وألمانيا وروسيا لم تعد بعيدة عن توافق إرادة الإصلاح في الشرق الأوسط، أما إيطاليا وكندا واليابان فلم تكن بعيدة في أي وقت عن أجندة الولايات المتحدة، كما أن التوافق الدولي بدأ جليا بقرار مجلس الأمن الأخير بشأن العراق الذي لم يشذ منه أحد حتى أكثر الدول تحفظا.
التوافق نجده أيضا بين الدول العربية الخمس التي حضرت القمة في سي آيلاند وهي البحرين والجزائر والأردن واليمن والعراق، ويجمع هذه الدول العربية خيط واحد، إنها جميعا شرعت في برنامج للإصلاح الداخلي السياسي والاقتصادي، كل بطريقته الخاصة ونتيجة لظروفه الموضوعية. إلا أنها ليست كل الدول العربية المتعاطفة مع خطط الإصلاح، فهناك دول شرعت أيضا في تنفيذ برامج إصلاحية وهي ومتعاطفة مع مجرى التيار العالمي، ولكن بسبب ظروفها السياسية لم تأخذ مكانها في اجتماع سي آيلاند الأخير.
الدول العربية الخمس الحاضرة في سي آيلاند، ليست من وسط القوة المحركة للشأن العربي تقليديا، هي من المحيط وشبه المحيط العربي، وليست من القلب، كما أنها ليست الأكبر اقتصادا وسكانا (عدا الجزائر)، وذلك يعني أن المحيط قد وعى الشروع في بدء التغيرات المطلوبة، أو حاول على الأقل للظهور بمظهر المستجيب الموافق، وربما أرادت الدول الخمس أن تخفّف من الضغط الإعلامي والسياسي على داخلها، أو هي تطمح بأن يحقق التوافق مع الدول الثماني الأكبر استقطابا لرؤوس أموال تحرّك الاقتصاد الداخلي، إلا أن وجودها هناك يحتم عليها سياسيا أن تسرع أكثر من غيرها في ضرب المثل وأخذ المبادرة، فالدول العربية الخمس بحضورها القمة يعني أنها التزمت أمام الجميع باتخاذ خطوات متسارعة نحو الإصلاح، وأي تراخٍ أو صرف نظرٍ مؤقت بإبدال الكلام عن الفعل، ربما يؤدي إلي فقد الصدقية، واستجلاب ضرر أكبر من الضرر الذي قد يصيب الدول الممتنعة.
فالسقف الذي وضعته الوثيقتان الصادرتان من قمة الدول الثماني «الشراكة والتقدم» و«الخطة لدعم الإصلاح» يضع ضغوطا ويتطلب بذل الكثير من العمل، من الخمس الحاضرة أو الأخرى الموافقة وغير الحاضرة، فما بالك بالضغوط التي يمكن أن تظهر بشأن الدول الممتنعة والمتشككة، فطريقها أطول وأصعب.
الظاهرة الأخرى الواجب ملاحظتها من قراءة الوثيقتين، أن الدولة الأكبر في عالمنا اليوم وهي الولايات المتحدة، قد غيرت سياساتها التقليدية في المنطقة، من تأكيد الوضع القائم والحفاظ عليه، إلى النقيض وهو السعي لتغيير الوضع القائم وإبداله جذريا أو جزئيا.
وعلى رغم المخاطر التي تحذّر منها بعض مراكز الدراسات الأميركية، كما هو تقرير مركز دراسات (راند) الأخير الذي ينصح الإدارة الأميركية بالموازنة بين ثلاث متغيرات، الإحباط الداخلي في الشرق الأوسط، العلاقة بـ «إسرائيل» والمطالبة بالإصلاح السياسي، فان اختلت الموازنة - كما يرى التقرير - قد يجلب الضغط من أجل الإصلاح سلبيات أكثر من أية ايجابيات مبتغاة، إلا أن مثل تلك التقارير نظرية، والمحك هو ما مُهر بتوقيع الكبار من الوثائق.
الفهم الخاطئ
لعل أهم أشكال الفهم الخاطئ للتحالفات الجديدة، ما فهمه الرئيس الليبي من أن التسليم بما تريده الولايات المتحدة والغرب يعطيه حق التصرف كما يريد، فيقرر أن يدفع بفريق اغتيال لولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز. هذا أحد الأخطاء القاتلة لمفهوم تخفيف الضغط أو الشراكة مع الشريك الخطأ في منطقة فشلت في حل النزاعات البينية بينها.
ولعل ملاحظة مهمة في بيان الثماني بشأن العراق، إذ كانت المسيرة التاريخية، عدا ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وإلى حدٍ أقل اليابان، أن تقوم البلاد المنهزمة بدفع ما يستحق عليها كتعويضات للحرب، العراق أول دولة عربية في تاريخ الصراع التي يدفع فيها المنتصر أموالا ضخمة للخاسر، وطلب الولايات المتحدة من الدول الدائنة للعراق بأن تسقط حوالي ثمانين في المئة من ديونها، يعني أن هناك تفكيرا مختلفا تماما عما كان في السابق. انه يعني اجتثاثا جذريا لعوامل الإحباط المقبلة، وخنق لأية محاولة للتفسير السلبي لما تم حتى الآن في العراق، ربما بطرف خفي أشارة مهمة لدول مثقلة بديون خارجية وتشجيعها على السير في طريق آخر غير الذي عرفته حتى الآن للتخفيف من ديونها. أمام الوثيقتين المعلنتين لم تعد الدعوة للإصلاح تسبب إحراجا لأحد لانهما أشارتا إلى تجاوز عقبتين، الأولى ربط واضح وجلي بالقضية الفلسطينية، وبشروط إصلاحية في الموضوع الفلسطيني، والثانية التشديد على أن مطلب الإصلاح هو مطلب داخلي، بدليل بيان القمة العربية الأخيرة، ومجموعة من البيانات الأخرى المنبثقة من تجمعات عربية مختلفة.
يتطلع العرب في بلدانهم اليوم في بداية العشرية الأولى من هذا القرن سريع التغير، إلى عقد اجتماعي جديد في عالم يستبدل بحروب السلاح حروب الأفكار، وها هي الأفكار تتدفق معلنة حربا جديدة عنوانها الإصلاح ووسيلتها استخدام التقنية الحديثة للترويج إلى تلك الأفكار بجانب العصا والجزرة
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 648 - الإثنين 14 يونيو 2004م الموافق 25 ربيع الثاني 1425هـ