... وأخيرا أقلعت تصورات طائرة الإصلاح في المنطقة العربية كما حددتها الدول الصناعية الثماني في قمة سي آيلاند في ولاية جورجيا الأميركية. وقبل أن يستعد شباب المستقبل العربي بربط الأحزمة تجنبا للارتجاجات الهوائية لحظة إقلاع الطائرة لابد من تفكيك نص خطة الاصلاح التي أطلق عليها مجازا «شراكة من أجل التقدم ومستقبل مشترك مع منطقة الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا».
عنوان الوثيقة كثير الكلمات وطنان في وقعه على السمع. وربما تكون الكلمات الكبيرة والطنانة مقصودة لزيادة نسبة الأوهام في العقل العربي المستلقي على رمال الصحراء. فالكلمات الضخمة والفارغة من مضمونها الواقعي والعملي ربما جرى ادراجها عن قصد لزرع الأوهام في عقول أجيال عربية مستسلمة للمأساة ويائسة من مستقبلها بعد أن فقدت الأمل من امكانات «الإصلاح من الداخل». فتكبير الكلمات وزيادة الطنين يسهمان في تقريب الخدعة ويجعلان منها الأمل المعقود عليه مستقبل العرب في العقد المقبل.
وحتى لا تلعب الصحافة العربية دور المخادع في لعبة كبيرة تقوم فصولها المسرحية على الخدعة وزرع الأوهام لابد من تفكيك نص الوثيقة وكشفه حتى لا تكون طائرة الإصلاح الميمونة مجرد رحلة جوية من مكان إلى مكان ولا تشعر الأجيال (بعد مرور عشر سنوات على الإصلاح المزعوم) أن وضعها لايزال على حاله بل ربما أسوأ من السابق.
القراءة فعلا بحاجة إلى ربط أحزمة حتى لا تكتشف الأجيال بعد عشر سنوات أنها كانت ضحية خدعة كبرى ويصبح الإحباط على قدر الرهان. وبقدر ما نصغر من قيمة الرهان تكون الحسابات أفضل في المستقبل ويصبح الإحباط المتوقع ليس كبيرا إلى حد تصاب فيه الاجيال بأزمة لا تقوى على تحمل نتائجها السلبية. فالمشكلة الآن أن هناك كمية من «المتأمركين» يطبّلون ويزمّرون للاصلاح إلى حد اعتقد بعض السذج ان التطور لا يحتاج إلى عمل بل هو يسقط من الخارج وان القوى العاملة العربية عليها ان تتقاعد من الآن وتجلس على قارعة الطريق وتراقب عن بعد عملية الاصلاح التي ستقوم بها جيوش العمال والمهندسين لإعادة بناء ما دمرته الأنظمة. بعض السذج يعتقد ان «الاصلاح من الخارج» يعني استقالة الأمة عن العمل والتفكير والانتاج والتعب وترك الأمور إلى الأجنبي ليقوم بأعمالنا ويفكر عنا وينتج بالنيابة عنا، فنحصل على معاشنا من تعب وعناء غيرنا.
هذا البعض فهم من فكرة «الإصلاح من الخارج» دعوة إلى الكسل والتقاعد المبكر وانتظار ما سيقدّم إلينا من انتاج على طبق من فضة. وهناك من فهم فكرة الاصلاح بطريقة اكثر موضوعية واعتبرها مجرد فرصة يجب الرهان عليها لأنها ربما تتيح امام الشعوب العربية فسحة زمنية للتقدم واللحاق بالغرب بعد أن أوصلت الأنظمة العربية الأوضاع إلى الاسوأ وبالتالي فإن اميركا مهما كانت سيئة وظالمة لن تبلغ درجات الظلم والسوء والكوارث التي ألحقتها الأنظمة بشعوبها.
الرأي الثاني قد يكون أفضل من الأول، فهو على الأقل لم يفهم الاصلاح بأنه دعوة للتبطل والذهاب إلى المقاهي وتدخين الارغيلة (الشيشة) بانتظار الفرج من الخارج. الا ان أصحاب الرأي الثاني يجب ان يبذلوا المزيد من الجهود لشرح معنى الاصلاح للجزء الأكبر من المراهنين على أن الرزق في يد الولايات المتحدة وأن الأخيرة مجرد جمعية خيرية قررت فجأة توزيع ثرواتها (المنهوبة أصلا من شعوب العالم) على الشعوب العربية حبا في العرب وحرصا على مستقبلهم وخوفا عليهم من الاستبداد والقمع.
وحتى نصل إلى تقويم واضح للوثيقة وتقدير موقف واقعي لا يسهم في زرع الأوهام وإسقاط طائرة الاصلاح قبل اقلاعها... لابد من تفكيك نص الوثيقة وكشف فقراتها وتوضيح ملابساتها واللحاق بالكذاب إلى باب داره لمعرفة حقيقة ما يريد ومقدار جرعة الاصلاح التي قررها لأمة يبلغ تعدادها السكاني اكثر من 270 مليون نسمة وتمتد جغرافيا على منبسط يبدأ من الخليج وينتهي في المحيط ويعاني الأمرّين من أنظمة استهلكت نفسها واحتلال صهيوني عطل الكثير من امكانات التقدم واستنزف ثروات الدول العربية في صراع مديد غير مسموح دوليا للعرب ان يتغلبوا فيه على دويلة صغيرة تدعى «اسرائيل». فالدول العربية قوية في المعادلة ولكن نسبة القوة العربية مراقبة دوليا وممنوع عليها ان تصل إلى اكثر من 49 في المئة في مجموعها مقابل 51 في المئة لدولة «اسرائيل». فالقوة يجب ان تكون دائما في الجانب الآخر حتى تذل الدول العربية وتعترف بضعفها وعدم قدرتها على النمو والنهوض.
المسألة معقدة. وحتى لا تسقط الأجيال المقبلة مع أوهام طائرة الاصلاح لابد من الانتباه وربط الأحزمة بقوة حتى لا يكون الارتطام بأرض الواقع مفاجأة غير متوقعة تثير الاحباط والاضطراب بدلا من الازدهار والاستقرار.
لنقرأ الوثيقة أولا ونفكر ثانيا... وبعدها لكل حادث حديث
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 648 - الإثنين 14 يونيو 2004م الموافق 25 ربيع الثاني 1425هـ