كلما تقدم الوقت بالمجلس النيابي (خصوصا)، زادت لحون الانتقادات وازدادت حدتها، وتنوعت زوايا النظر إليها. فهذه الانتقادات تنطلق من منطلقات شتى، ولأغراض متباينة، ولكن ما يساعدها على النمو بهذا الشكل هو المجلس النيابي نفسه وأداؤه الذي لايزال مرتبكا.
الانتقادات تنطلق - في الصحافة وغيرها - من أطراف عدة، منها أولئك الذين لم يوفقوا إلى الفوز في الانتخابات الأولى، وبالتالي يريدون أن يرسلوا رسالة ضمنية إلى من وقفوا إلى جانب منافسيهم بأن خيارهم كان سيئا. آخرون ينوون الدخول إلى انتخابات العام 2006، وما هي عنا ببعيد. مقاطعون ومتعاطفون مع المقاطعة يودون البرهنة على أن المجلس المكبل بالمادة (45) لا يمكنه القيام بأي شيء، وبالتالي فإن نظرية المقاطعة صحيحة. وبين هذه الأصناف أناس محركهم الأساسي ضميرهم الوطني الذي يأبى أن يرى أية خروقات ويسكت عنها جبرا لخواطر النواب الذين يتعلمون «ألفباء» التشريع.
وإذا كانت مشارب الناقدين مختلفة، فإن نتائج النواب واحدة، ويكاد لا يختلف عليها المتابعون من قريب أو بعيد، وما يتوصل إليه من بعد طرح الآراء، ان أداء المجلس لا يرقى إلى الطموح، حتى وإن كان في دورته الأولى.
هموم مختلفة
الشعب الذي شارك في الانتخابات، والذي فاق نسبة 53 في المئة، يعود اليوم بمجموعة من الأسئلة بشأن من أوصلهم إلى المجلس، أو حتى أولئك الذين لم يصلوا، هل كانوا سيصبحون أفضل مما هو موجود حاليا؟
وربما «نؤرخ» لأولى النقمات التي حاقت بأداء المجلس، وذلك بالطلبات المتتالية لعدد من الأعضاء لزيادة مخصصاتهم المالية، والبدلات التي طلبوها وغيرها من الأمور التي جعلت شريحة كبيرة من المواطنين يشعرون أن الوصول إلى البرلمان بحد ذاته غنيمة تغتنم، وأن التشريع سيأتي في مرحلة لاحقة بعد أن يأخذ النواب أوضاعهم، وخصوصا في مسائل من مثل بدل المواصلات وبدل المكتب، وبدل السفر المثير جدا والمقدم من بعض من تصدّوا للحقوق بشكل صارم، وقبلها قبول النواب «أجمعين» بمبلغ العشرة آلاف دينار الهبة التعويضية، وإن صرح بعضهم بأنه «سـ» يهبها إلى الصناديق الخيرية إلا أننا لم نر صكا ببراءة الذمة منهم، عملا بمبادئ الشفافية التي يطالبون بها المؤسسات الرسمية، وأخيرا أتى موضوع التقاعد، وهو أحد الأمور المخالفة للشروط التي أقروها حين تقدموا الى ترشيح أنفسهم، وكذلك الحصانة طول العمر لضمان عدم المحاسبة، والتمتع بالجواز الدبلوماسي الأخضر حتى يأتي الأجل.
عدد من النواب شعر بالمسئولية التاريخية العظيمة لمستقبل التجربة النيابية إن هو قبل بما يحصل عليه النائب الآن، وبالتالي، كانت المبادرات الهادفة إلى تعظيم الاستفادة من المناصب بقدر المستطاع، أوغرت صدور الناس، لأنهم كانوا يأملون أن ينكب النواب على الدفاع عن حقوقهم، والتشريع لتحسين أوضاعهم المعيشية، بما يعني رواتب أفضل تدخل في الحساب آخر الشهر، وهذا ما يقيسه الناس، الذين قد لا يهمهم كثيرا مماحكات بعض النواب مع الوزراء في أمور تفصيلية بقدر ما يهمهم فيها إحراج الحكومة فقط، وغير هذه «الحركات» لا توزن في موازين الذين يأملون مستقبلا أفضل لهم... إلا أن النواب - الذين عملوا في بعض الأحيان على الملفات الشعبية وأكسبوهم أيام عطل أكثر - كانوا مترددين بين ما يمكنهم الحصول عليهم، وما يقدمونه الى الناس، ووجدوا أن ما يطلبونه يمرّر بسهولة أكثر مما يطلبونه لشعبهم، لأنهم مجرد أربعين نائبا، وتلبية طلباتهم أسهل بكثير من تلبية طلبات 400 ألف مواطن، ولعل النواب يرضون ويقللون من نقدهم للأداء الحكومي.
هذه المكاسب المالية من شأنها أن «تليّن» مواقف كثيرة، وشيئا فشيئا تتراخى العزائم والهمم في التشريع، والوقوف في وجه ما يعتبره النواب خطأ يجب أن يصحح.
الأعمام والأخوال
الناس الذين رأوا سيارات المرسيدس والـ «بي إم دبليو» التابعة للنواب، عرفوا أين ذهبت مخصّصات بدل المواصلات والتنقلات، ولكن ما لم يروه هو بدل المكتب، إذ لايزال أكثر النواب لا مكتب لهم، ولا مستشارين، وبعضهم لايزال يلتقي المواطنين في أماكن عامة غير خاصة به، ولا مكتب له يقصده من يريده.
في اعتقادي الخاص، أن الملفات التي عرضت في المجلس، وأسخنها «الهيئتين» و«التجنيس» وهي الملفات التي ملأت الدنيا ضجيجا، لم يسقطهما النواب من خلال التصويت، ولكن أسقطتهما عدم تماسك هذه الملفات واللجان التي تولّت التحقيق فيها، إذ ان أرقاما ووقائع - كالتي في ملف الهيئتين - كيف لها أن تتسرب هكذا من بين أيدي النواب لو كان هناك مستشاورن قانونيون واكتواريون ومحامون واقتصاديون تمت استشارتهم في هذا الشأن، ليس على فنجان شاي في مقهى فخم، بل بعمل دراسات مدفوعة الأجر، تقيّم الموقف، وتضع الحلول الجديرة بالتطبيق، أي نقل الأمر من الـ «هُويْ هُويْ» إلى الدراسة العلمية التي لا تترك شاردة ولا واردة إلا وغطتها.
وبالتالي، عندما يقابل نواب «هواة» في التشريع، الحكومة بقضها وقضيضها، بأجهزتها ومستشاريها، بدوائرها القانونية وسلاطين التدبيج، تكون المقابلة غير متكافئة، ويصبح النواب - كما قال الشاعر عبدالله البردوني - «كالأعمام والأخوال في الإصرار... والوهن»، فهم يصرون إصرارا شديدا على مواقف بعينها، وما أن تحين ساعة العرض ويأتي يوم الحساب، حتى تراهم قد نفضوا إيديهم عما اتفقوا عليه، لا عن خيانة - معاذ الله - بل لأنهم اكتشفوا بالعلم والمنطق الحكوميين أنهم لا يستطيعون إدانة أحد، وأن ملفاتهم وإجراءاتهم مهلهلة إلى درجة أن ردود الحكومة لا تحتاج إلى البحث عن ثقب، بل يحتاج الوزراء بعدها إلى ما يستر عورات هذه الملفات لأن الثقوب فيها أوسع من قدرات الراقعين.
وعند القول إن النواب هواة في التشريع، فهذا لا يعني التقليل من شأنهم، فهم قبلنا يعلمون أن التشريع يحتاج إلى عقلية صوغ الرغبات والاقتراحات وغيرها في شكل يضمن لها المرور، ومن دون هذه العقلية التي لا ينتمي إليها أكثر النواب، كما لا يريد أكثرهم استئجارها بالمبالغ المخصصة للمكاتب النيابية، فإن حصافة التشريع والذهاب إليه بيد مملوءة ستكون عاملا مؤثرا جدا في العمل الرئيسي الذي من أجله تكون هذا المجلس.
فنعلم أن بعضا من النواب لم يدخل الانتخابات إلا ليكون على ثغر من ثغور المناطق التي من الممكن أن يفوز بها بحسب توصية جماعته، وإن كان قليل الاطلاع على فن المناورات السياسية، أو مفتقد لها، كما أن البعض لم يقرأ دستور البحرين إلا أثناء الأيام الأخيرة للانتخابات، والبعض دخل الانتخابات لا إيمانا بالتجربة ولكن ليفوّت الفرصة على الآخرين، ولكي يقف عظما في بلاعيم من يريدون تمرير قوانين لا يد له في صوغها، هذا إلى جانب أناس في المجلس لا يهشّون ولايبشّون، ولا صوت لهم، ويستغرب الناس إن علموا أن هذا الإنسان نائب عنهم، وهم لم يروا له تصريحا قط، ولا مشروعا ولا مقترحا ولا حتى مداخلة.
ماذا لو..؟
تتردد مقولات بأن لو دخل المقاطعون إلى الساحة لكان أمرنا قد أفضى إلى حال أحسن من هذه الحال، هكذا يظنون، ولا نريد أن نرجم بالغيب، ولكن لا شيء يقول إن المقاطعين هم أفضل حالا من المشاركين، فالأفضلية لهم الآن لأنهم ليسوا في اللعبة، وإذا صدقت عليهم «تكلم لأراك»، فإن بين يديهم أن يتكلموا في الفترة الماضية، معقبين وناصحين ومصوبين ومدققين لأعمال المجلس، ولكن جانبا من المقاطعين كانوا يخشون إن هم عملوا هذا أن «يتسخوا» بالتجربة، ولذلك فإن البقاء صامتين عنها وتجاهلها احتقارا، أفضل من المشاركة فيها من بعيد حتى لا يكسبوها الشرعية (وكأنها ناقصتها)، فالأمر لا يتعلق بالقدرات الخطابية وحدها، بل العودة إلى القدرة على التشريع وضبط الملفات والمناورات السياسية، وهذا كما يفتقده الداخلون، يفتقده أيضا المقاطعون لأنهم ما جربوه، كما لم يجربه غيرهم أيضا.
بين اليدين
ما بين أيدينا اليوم هو أن نتفهم أسس تكوين النواب، والخلفيات التي جاءوا منها والدوافع التي رمت به تحت ضوء التجربة الأولى، وجعلتهم يتلقون السهام من كل جانب، وليس هدف هذا المقال - تحديدا - أن يصب اللوم في هذه الآنية أو تلك، بل لكي نعي حجم ما نحن في صدده.
من الناس من قال: «كما للنواب أن يحجبوا الثقة عن الوزراء، أليس من حقنا أن نحجب الثقة عنهم بعد ان بلغوا نصف المدة ولم يحققوا ما وعدونا به»، ومنهم من تساءل: «على حساب من يذهب رئيس مجلس النواب لعيادة نظيره اليمني، مع هذا البدل الكبير لسفر النواب»، حتى وإن قيل ان المقترح الطاحن لأكباد الناس لم يتم تمريره.
ما بين أيدينا أن نعيد - مع الكثير من الناس - التمني على النواب الحاليين أن يعقدوا - وحدانا وجماعات - مخيمات صيفية في هذه الإجازة التشريعية ليدرسوا سيرتهم في الدورين السابقين، ويعرفوا من أين أوتيت ملفاتهم، وأين كانت إخفاقاتهم، وأن يعيدوا قراءة كل ما تناولته الصحافة من نقد لهم بعيدا عن إفراط في الحساسية، أو تفريط في الوقت المتبقي من فرصتهم ليثبتوا العكس
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 647 - الأحد 13 يونيو 2004م الموافق 24 ربيع الثاني 1425هـ